عندما دسّ معلّم اللغة العربيّة في يدي الكتاب الأوّل « الأشجار واغتيال مرزوق» وقال لي وقتذاك: «اقرأي هذا الكتاب، وتعالي لنتناقش» كنت نظن أن القراءة تجربة هادئة، شيء شخصي جدًا، حيث المؤلف هو الذي يرسم الطريق، ونحن القراء علينا أن نتبعه ببساطة، وكأننا نسافر في خط مستقيم.
كان الكتاب الورقي هو بوابتنا الوحيدة لكل المعارف. نفتح الغلاف، وننغمس في الصفحات صفحة تلو الأخرى، ونستنشق عبق الورق القديم ورائحة الحبر المميزة، يا لها من متعة! كانت هذه الرحلة من البداية للنهاية؛ رحلة تركيز حقيقي وعمق، علاقة مباشرة تماماً بين الكاتب وأي شخص يقرأ له، وكلها تتابع وانضباط3.
لكن الكتاب الورقي بدأ يتأثر بالتكنولوجيا، وها نحن الآن في العصر الرقمي. القراءة لم تعد مجرد تتبع لسطور، بل تحوّلت إلى مغامرة متعددة الأبعاد.
النص الرقمي قلب الطاولة علينا جميعاً. القارئ لم يعد مضطراً أبداً لـ «الانضباط» بخطّية الصفحة. اليوم، يمكنك أن تقفز بين الروابط والمقاطع، تذهب لنصوص مرتبطة أو متفرعة، وفي النهاية تختارأنت مسارك الخاص. هذا ما يسمّيه الناس (والباحثون طبعاً) بالنص التشعّبي (Hypertext)، الذي يجعل منك شريكاً فاعلاً، فأنت تبني معنى النص بنفسك، بدل أن تكتفي فقط باستقباله جاهزاً من المؤلف.
كما قال رولان بارت: «النص لا يعود ملكًا لمؤلفه، بل هو شبكة من العلامات تنتظر القارئ ليمنحه معناها». هذه الفكرة أصبحت حقيقة معيشة اليوم في أي صفحة «ويب» نفتحها، وفي أي تجربة تفاعلية على الشاشة. المعنى أصبح عملية مشتركة بين الكاتب والقارئ، وبين القارئ ووسائط النص الكثيرة والمتعددة.
إنّ توسُّع مفهوم النص لم يتوقف عند الدراسات العلمية أو التعليمية! حتى الروايات والأدب الموجه للأطفال والقصص الرقمية، كلها صارت مليئة بالصوت والموسيقى والفيديوهات والرسوم المتحرّكة. أنت كقارئ، لم تعد تقرأ الكلمات فقط، بل أنت «تعيشها»؛ تسمع وتَرى وتشاهد الحركة، بل أحياناً يمكنك أن تشارك في تغيير الأحداث أو اختيار النهاية في الألعاب القصصية التفاعلية!
يوصف النص الرقمي الآن بأنه تجربة متعددة الحواس: «إنه نص يُقرأ، ويُرى، ويُسمع، ويُحسّ به». هذا التفاعل الكامل يولد علاقة بين النص والقارئ لم نكن لنفكر فيها في زمن الورق التقليدي.
التحول إلى الشاشة التفاعلية لم يترك القارئ مجرد متلقٍ، بل حوله إلى مشارك حقيقي. يمكنك الآن التعليق، والمشاركة، وإعادة النشر، بل وتستطيع حتى أن تعيد إنتاج النص بطريقة خاصة بك. النص الرقمي تحول إلى ساحة تفاعل اجتماعي ومعرفي، حيث القارئ يصنع جزءاً من النص بقدر مساهمته في تفسيره وفهمه.
هذا يذكرنا طبعاً بالذكاء الجماعي لبيير ليفي، الذي يشدد على « أنّ المعرفة الآن لم تعد ملكاً لفرد، بل هي نتاج تفاعل مجتمع رقمي ضخم!».
إنّ الوسائط الرقمية تفتح أبواباً واسعة، وهذا أمر لا خلاف عليه:
- غنى النصوص: يمكن دمج الصور والموسيقى والفيديو، وهذا يعمّق المعنى ويجعل الرسالة تصل بطرق متنوعة وممتازة.
- توسيع الجمهور: النص متاح للجميع في كل مكان، وهذا عكس الكتب الورقية ذات التوزيع المحدود.
- تعزيز التفكير النقدي: الروابط والمراجع كثيرة ومتعددة، وهذا يجبر القارئ على المقارنة والتحليل والتدقيق.
لكن مهلاً… هذه الحرية لها ثمن، وعلينا أن نعترف بالتحديات الواضحة:
- تشتّت الانتباه: الروابط والإعلانات والتنبيهات لا تتوقف أبداً.
- السطحية: الكثير من الناس أصبحوا معتادين على «المسح السريع» للنص بدلاً من قراءته بعمق.
- سيطرة الخوارزميات والسوق: غالبًا ما تروّج لـ «النصوص السهلة» والمستهلكة على حساب النصوص الجادّة والعميقة.
وعلى الرغم من كل الفرص التي تقدمها الشاشات، هناك مشكلة عميقة يجب أن نتوقف عندها:
التأثير السلبي على قدرتنا على التخيّل والتفاعل العقلي. عندما كنا نقرأ الورق، كان عليك أن تستحضر الشخصيات والأحداث في ذهنك أنت، وهذا ينمّي التصوّر ويحفّز الخيال ويقوّي مهارات التفكير العليا كالابتكار.
أما النصوص الرقمية التي تضع كل شيء أمام عينك – الصور، والفيديو، والموسيقى – فهي تقلل بشدة من حاجتك للتخيل الذهني. التفاعل يتحول في الغالب إلى شيء بصري وسمعي، ويقلّ تركيزنا على الجانب العقلي، وهذا قد يضعف تدريجياً مهاراتنا النقدية والإبداعية.
لا يعني هذا أبداً أن الوسائط الرقمية هي الشر بعينه، بل التحدّي الحقيقي هو أن نجد الموازنة بين كل هذا الإثراء والتفاعل الذي تقدمه، وبين الحفاظ على مساحة الخيال العقلي والابتكار الشخصي.
لحسن الحظ، هناك جهود لإيجاد هذه الموازنة:
- السبورة التفاعلية في القراءة: دراسة في سلطنة عمان أثبتت أن استخدام السبورة التفاعلية لطلاب صعوبات التعلم كان له تأثير إيجابي. لقد تفاعل الطلاب مع النصوص بشكل مباشر، وهذا ساعدهم على الفهم وتطوير مهاراتهم اللغوية .
- التخيل الموجه للأطفال: جامعة الأنبار وجدت أن استراتيجية التخيل الموجه ساعدت في تنمية مهارات الاستكشاف لدى أطفال الروضة. تخيل المواقف والأحداث عزز قدرتهم على التفكير النقدي والإبداعي
- الواقع المعزز والتفكير التخيلي: دراسة في مصر أظهرت أن استخدام تقنية الواقع المعزز في تدريس التربية الاجتماعية والوطنية ساعد على تنمية مهارات التفكير التخيلي وتحسين التحصيل الدراسي لطلاب الصف السادس.
إنّ انتقالنا من الورق للشاشة ليس مجرد تحديث تقني، إنه تحوّل ثقافي ومعرفي هائل. القراءة اليوم أصبحت تجربة ديناميكية ومفتوحة، يتقاطع فيها كل شيء: النص، المؤلف، القارئ، والوسائط المتعددة.
والتحدّي الأكبر الذي نواجهه الآن هو: كيف نحافظ على روح القراءة العميقة في خضم هذا الفيض التفاعلي كله؟ وكيف نربي أنفسنا وأطفالنا ليصبحوا قُرّاء ناقدين، يستفيدون من الأدوات الجديدة، لكن دون أن يفقدوا أبداً القدرة على التركيز والتأمل العقلي؟
إنها رحلة القراءة الجديدة؛ رحلة من التلقّي الساكن إلى المشاركة النشطة، ومن النص المغلق إلى النص المفتوح. وعلينا أن نعيش هذه الرحلة بكل وعي وشغف.
عشتار

