لم تكن بريطانيا يومًا مجرّد قوة استعمارية عسكرية في الشرق الأوسط، بل كانت وما تزال لاعبًا سياسيًا بارعًا في إدارة التوازنات الداخلية للدول العربية. ومن أبرز أدواتها عبر قرن من الزمن: الجماعات الإسلامية المنظمة، وعلى رأسها الإخوان المسلمون الذين أسسهم حسن البنا عام 1928.
ومع تعاقب العقود، تفرعت من هذه الجماعة حركات أكثر تشددًا، تحولت إلى تنظيمات تكفيرية عابرة للحدود مثل القاعدة وداعش والنصرة. ومع كل تحول، بقيت أصابع لندن (ومعها واشنطن لاحقًا) حاضرة في خلفية المشهد، سواء عبر دعم غير مباشر، أو عبر إعادة تلميع هذه الجماعات وإعادة توظيفها لخدمة مصالحها الاستراتيجية.
الإخوان المسلمون: ولادة في ظل الاحتلال
عندما أسس حسن البنا جماعة الإخوان في مدينة الإسماعيلية – حيث مقر شركة قناة السويس البريطانية – لم يكن اختياره للمكان بريئًا. فالإسماعيلية كانت رمزًا للوجود البريطاني، ومن هناك وُلدت حركة تحمل خطابًا دينيًا يوازي، بل ويواجه، خطاب الأحزاب الوطنية واليسارية التي كانت تطالب بالاستقلال.
المؤرخ الأمريكي ريتشارد ميتشل في كتابه الكلاسيكي الإخوان المسلمون (1969) أشار إلى أن السلطات البريطانية نظرت بعين الرضا إلى الجماعة الناشئة، ورأت فيها فرصة لتفتيت الحركة الوطنية وإضعاف خصومها السياسيين.
من لندن إلى واشنطن: لعبة الحرب الباردة
مع صعود جمال عبد الناصر وخطابه القومي المناهض للاستعمار، أصبحت جماعة الإخوان الورقة الذهبية بيد بريطانيا، ثم الولايات المتحدة.
في الخمسينيات، فتحت لندن أبوابها لعدد من قيادات الإخوان الهاربين من بطش عبد الناصر.
في الستينيات، تحولت أدبيات سيد قطب إلى مرجعية فكرية للجهادية المعاصرة، واضعة أسس «الحاكمية» و«تكفير المجتمعات».
بحلول السبعينيات، صار الإسلام السياسي – برعاية ضمنية غربية – السلاح الأنجع لمواجهة القومية العربية والشيوعية معًا.
المؤرخ البريطاني مارك كورتيس في كتابه Secret Affairs: Britain’s Collusion with Radical Islam يوثق بالتفصيل كيف تعاملت لندن مع هذه الحركات باعتبارها حليفًا غير معلن في مواجهة خصومها.
أفغانستان: الحاضنة الدولية للجهاد
الغزو السوفيتي لأفغانستان (1979) شكّل لحظة فارقة.
بريطانيا والولايات المتحدة أطلقتا واحدة من أضخم عمليات المخابرات في التاريخ الحديث: عملية الإعصار (Operation Cyclone).
تمّ تمويل وتسليح عشرات الآلاف من «المجاهدين»، عبر قنوات متعددة، أهمها شبكات الإخوان المسلمين.
عبد الله عزام، الإخواني الفلسطيني، كان العقل الذي نظّم تدفق المقاتلين العرب إلى بيشاور، وهناك التقى بأسامة بن لادن وأيمن الظواهري، لتتشكل النواة الصلبة لتنظيم القاعدة.
هكذا، تحت مظلة الحرب الباردة، ساهمت لندن وواشنطن في صناعة جيل جديد من الجهاديين العابرين للحدود، سيعود لاحقًا ليشعل الشرق الأوسط.
من القاعدة إلى داعش والنصرة
بعد هزيمة الاتحاد السوفيتي، لم يُغلق ملف «المجاهدين »والقاعدة بقيادة بن لادن تحولت إلى تنظيم عالمي.
الغزو الأمريكي للعراق (2003) فتح الباب لظهور أبو مصعب الزرقاوي، الذي أسس القاعدة في بلاد الرافدين، نواة تنظيم داعش.
في سوريا، أسس أبو محمد الجولاني «جبهة النصرة» كفرع للقاعدة، قبل أن تتحول إلى «هيئة تحرير الشام».
ورغم دمويتها، جرى التعامل مع هذه التنظيمات من قبل أجهزة غربية بوصفها «شرًا يمكن توظيفه»، سواء لإضعاف الأنظمة القائمة، أو لإبقاء المنطقة في حالة فوضى دائمة.
التوظيف الجديد: من الإرهاب إلى «الاعتدال»
في السنوات الأخيرة، ظهرت محاولات بريطانية لإعادة صياغة صورة بعض التنظيمات.
منظمات مثل Inter Mediate (التي أسسها جوناثان باول، مدير مكتب توني بلير سابقًا) انخرطت في مشاريع «حل النزاعات» مع جماعات مسلحة.
تقارير إعلامية (منها The Guardian وMiddle East Eye) تحدثت عن تواصل غير مباشر مع قادة هيئة تحرير الشام في سوريا، بهدف إعادة تسويقهم كقوة محلية «معتدلة».
شخصيات مثل كلير حاجاج، التي عملت في Inter Mediate، كانت جزءًا من هذا المشهد، في إطار محاولات تلميع قيادات مثل أبو محمد الجولاني عبر الإعلام الغربي (مقابلة PBS Frontline، 2021 مثالًا).
نارٌ أُشعلت ولم تنطفئ
منذ قرن تقريبًا، نجحت بريطانيا في زرع بذرة الإسلام السياسي المسلح، بدايةً مع الإخوان المسلمين، ثم عبر رعاية غير مباشرة لحركات جهادية أكثر تشددًا. ومع دخول الولايات المتحدة على الخط، تضاعفت قوة هذه الورقة.
واليوم، لا تزال المنطقة تدفع ثمن هذه السياسات: دول مدمّرة، مجتمعات مفككة، وجماعات مسلحة تتحرك كأدوات في لعبة دولية أكبر.
المعادلة واضحة: كلما احتاجت القوى الكبرى إلى إدارة الفوضى في الشرق الأوسط، أعادت إحياء الجماعات التي زرعتها بالأمس.
مصادر المقال
Richard P. Mitchell, The Society of the Muslim Brothers, Oxford University Press, 1969.
Mark Curtis, Secret Affairs: Britain’s Collusion with Radical Islam, Serpent’s Tail, 2010.
Lawrence Wright, The Looming Tower: Al-Qaeda and the Road to 9/11, Vintage Books, 2006.
Jason Burke, Al-Qaeda: The True Story of Radical Islam, I.B. Tauris, 2004.
وثائق وزارة الخارجية البريطانية (National Archives, UK).
تقارير صحف: The Guardian, Middle East Eye.
د. نبيلة غصن

