مفهوم التضحية في فكر أنطون سعادة – من التنظير إلى التطبيق: البعد العملي والاجتماعي

أنطون سعاده وفلسفة التضحية

يعد أنطون سعاده (1904 ـ 1949) المحطة الأكثر تطوراً وثراء في صياغة مفهوم التضحية في الفكر القومي الاجتماعي. فقد جعل من التضحية إحدى الفضائل الأساسية في بناء الإنسان الجديد، وربطها بمفاهيم الحرية والبطولة والالتزام بقضية الأمة. وهي بالنسبة له الشرط الضروري للارتقاء من الأنا الفردية الضيقة إلى «النحن القومية» الواسعة، ومن الغريزة الأنانية إلى الفعل التاريخي البنّاء.

ولم تكن التضحية في فكر سعاده فعلاً عاطفياً أو اندفاعاً آنياً، بل فعل واعٍ نابع من إدراك عميق لحقيقة الحياة القومية. فسعاده يرى أن الإنسان لا يكتمل إلا بانتمائه إلى أمته، وأن الفرد الذي يحيا لنفسه وحدها يظل محدوداً، بينما الذي يهب نفسه لأمته يحقق ذاته في أرقى صورها.

لقد قدّم سعاده للتضحية بُعداً جديداً حين ربطها بالمثل العليا للبطولة القومية الاجتماعية. فهو لم يردها تضحية غريزية أو شخصية، بل تضحية عاقلة، مقصودة، نابعة من إيمان بالأمة، وبقيم الحق، والخير والجمال. فالتضحية هي الفعل العملي للإيمان والترجمة الفعلية للمعتقد إلى واقع ملموس. وفي هذا المعنى، تصبح التضحية جوهر البطولة، لأن البطولة ليست كلاماً ولا شعوراً مجرداً، بل استعداد دائم لبذل النفس ولتحمل الآلام في سبيل القضية القومية. لذلك يقول سعاده: «اخترنا أن نقاتل بآلامنا، حين رأينا أنّ الضرورة تقضي بأن نحارب بآلامنا، ولكننا لم نختر الآلام عن جبن، بل عن شجاعة وجرأة وقوة. وإذا كنا قد اخترنا الحرب بالآلام مرة، فلا يعني ذلك أننا سنبقى على الحرب بالآلام، بل نحن نستطيع أن نحارب بغير الآلام. ولكن حربُنا لها غايةٌ واحدةٌ هي عزُّ الأمة ووحدتُها وشرفُها وانتصارُها على الإرادات الأجنبية.»[1] ومن المعروف أن سعاده كرَّسَ حياتَه لخدمة قضية أمته، مضحيًا بوقته وراحته وهناء عائلته، ومتعرّضًا للنفي والمحاكمة الغيابية وللدسائس والوشايات والتهديد بالقتل مرارًا… حملَ في نفسِهِ آلامًا عظيمةً ولكنَّهُ لمْ يأبهْ للمشاقِ والمعاثرِ والآلامِ وللسلامةِ الشخصيةِ لأنَّهُ كانَ مستعدًّا للتضحيةِ والفداءِ من أجلِ الحرّيّةِ والعزِّ القوميين ولأنَّهُ كانَ مقتنعًا أنَّ الغاياتِ الساميةَ لا تنشدُها ‏إلا النفوسُ الكبيرةُ، التي لا بدَّ لها منْ أنْ تتألَّمَ وسطَ الصدماتِ ‏وهي إذ تقبلُ التضحياتِ فلأنَّها تعي أنَّ في التضحياتِ حياةً.[2] في إحدى رسائله الخاصة إلى أدفيك جريديني، يقول: « أني اشعر أن حياتي تكوِّن تضحيات في تضحيات. هذا شعوري منذ زمان. ولكن سورية يجب أن تحيا وتنهض وفي سبيل حياة سورية يهون كل شيء.»[3]

الأساس الفلسفي للتضحية

ينطلق سعاده في نظرته للتضحية من موقفه الفلسفي العام من الحياة والوجود. فهو يرى أن الحياة ليست ملكاً للفرد وحده، بل هي سيرورة كلية تتجاوز الذات الفردية لتتجسد في الأمة والمجتمع. لذلك، لا تُقاس قيمة الإنسان بقدر ما يحقق من منافع شخصية، بل بقدر ما يقدّم من عطاءات تُغني حياة الجماعة وتدفعها نحو التقدّم. في هذا الإطار، كتب سعاده: «الحياة كلها وقفة عز فقط»، وهي عبارة تختزل جوهر التضحية بوصفها رفضاً للذل والخنوع، وقبولاً بالعناء والمواجهة والموت من أجل قضية كلية تتجاوز الفرد.

ولا تنفصل التضحية عند سعاده عن فهمه لمغزى الوجود نفسه: فالإنسان، لكي يكون إنساناً كاملاً، عليه أن يتجاوز ذاته الضيقة ويعي انتماءه إلى الأمة، وأن يقبل بالتضحية في سبيل استمرارها ورقيها. التضحية ليست إذن خياراً أخلاقياً عرضياً، بل هي نتيجة منطقية لوعي الإنسان لذاته الاجتماعية القومية.

التضحية العملية كشرط للنهضة

لم يَقصُر سعاده مفهوم التضحية على البُعد النظري فحسب، بل امتد به ليشمل حيز التطبيق اليومي. فالتضحية في رؤيته تبدأ بالتجرُّد من الأنانية والمصالح الشخصية، والالتزام بالانضباط الحزبي والنهضوي، وبذلِ الجهد والوقت في العمل والإنتاج؛ انطلاقاً من إعلاء المصلحة العامة والقيم القومية فوق المصلحة الفردية.[4]

ولذلك يُؤكِّد سعاده أن الأمة، لكي تنهض من تخلّفها وتجزئتها، تحتاج إلى جيل جديد مؤمن، مستعد للعطاء والتضحية بالراحة والأنانية في سبيل المصلحة العليا. فمن دون هذا الاستعداد، لا يمكن لأي عقيدة أن تتحوّل إلى قوة تغييرية في المجتمع. وفي هذا الصدد، يحذّر سعاده في خطاباته من أن طريق النهضة ليس مفروشاً بالورود، بل هو طريق صعب وطويل لا يعبره إلا من تهيّأ لبذل التضحيات.

وفي خطابه عام 1941، يوضح سعاده هذه الرؤية بقوله: «إنّ طريقنا طويلة لأنها طريق الحياة. إنها الطريق التي لا يثبت عليها إلا الأحياء وطالبو الحياة. أما الأموات وطالبو الموت فيسقطون على جوانبها.» [5]وهكذا تكون النهضة في فكره مسيرة تضحيات وصعاب، لا يتحقق النصر فيها إلا بقدر ما يبذله المؤمنون من عرق ودماء.

هذا البُعد العملي يتجلى أيضاً في رسائله الخاصة، حيث كان يحثّ رفقاءه على قياس الإخلاص بمدى استعدادهم للعطاء الصامت المتقن، بعيداً عن رغبة الظهور أو انتظار المقابل. وهكذا غدت التضحية في فكر سعاده قاعدةً راسخة لبناء مجتمع جديد—متماسك في بنيته، فاعل في حركته.

بين الجمود والارتقاء

في مقالته «بين الجمود والارتقاء»، يبني سعاده رؤيته على ثنائية حاسمة: فالأمم إما أن ترتقي بواسطة التضحية، أو أن تجمد وتتقهقر بسبب غيابها. وهو لا يرى في التضحية فضيلة أخلاقية فحسب، بل «أهم مبدأ مناقبي قام عليه فلاح أي مجتمع متمدن أو متوحش.»[6]

وليس المقصود بالتضحية هنا فقط بذل الحياة في ساحة الحرب، فهي «ليست لها شكل واحد لأنها ليست حالة شكلية، بل مبدأً عاماً.»[7] إنها تشمل أيضاً تضحية الشهوات والأنانية العمياء، وتوجيه طاقات الفرد الحيوية نحو «الأعمال المفيدة، من ميكانيكية وصناعية وزراعية وعلمية وأدبية وفنية.»[8] وهو ما يعتبره سعاده التحولَ من «البطولة الفردية أو القبلية» إلى «البطولة الاجتماعية» التي هي أساس المجتمعات الحديثة المتحضرة.[9]


[1] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 ـ 1949، ملحق رقم 9 ـ خطاب الزعيم في اللاذقية ـ 26/11/1948.

[2] أنطون سعاده، الأثار الكاملة ـ 1 ـ أدب (الصراع الفكري في الأدب السوري)، بيروت، 1960، ص 155 ـ 156.

[3] “رسائل حب من أنطون سعاده إلى أدفيك جريديني 1937 ـ 1938″، موشن للدعاية والتسويق، بيروت، 1997، الرسالة 13.

[4] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 ـ 1949، ملحق رقم 8 خطاب الزعيم في حلب 23/11/1948.

[5] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الرابع 1940 ـ 1941، خطاب الزعيم إلى القوميين، الزوبعة، بوينس آيرس، العدد 32، 15/11/1941.

[6] أنطون سعاده، الإسلام في رسالتيه: المسيحية والمحمدية، سلسلة النظام الجديد 5، منشورات عمدة الإذاعة، الطبعة الرابعة، 1977، ص 88.

[7] المرجع ذاته.

[8] المرجع ذاته، ص 88 ـ 91.

[9] المرجع ذاته.

د. ادمون ملحم ـ الحلقة الثانية 3/2