نحيا اليوم في عالم يتغير بسرعة مذهلة. المؤسسات، سواء سياسية أو اقتصادية أو تربوية، تواجه تحديات العولمة، العمل عن بُعد، التحولات الرقمية، والهياكل الشبكية المرنة التي حلّت محل البيروقراطية الصارمة. في مثل هذا الزمن، لا يكفي أن نسأل: كيف ندير الموارد؟ بل كيف نصون وحدة الهدف وسط التعدد، وكيف نوفّق بين الحرية والإبداع من جهة، والنظام والفاعلية من جهة أخرى.
وهنا يبرز السؤال: هل كان لأنطون سعاده، الذي عاش قبل تسعة عقود، نهج في الإدارة يصلح اليوم؟ وهل ما زال فكره الإداري قادرًا على أن يقدّم حلولاً لما نواجهه من أزمات متسارعة؟
من يقرأ رسائل سعاده وممارساته في قيادة حركة النهضة، يدرك أنه لم يقدّم تنظيماً محدوداً بزمنه، بل أسّس مدرسة فكرية ـ إدارية ما زالت صالحة لكل عصر، لأنها تقوم على الدمج بين الفكر والأخلاق من جهة، والنظام والانضباط من جهة أخرى.
الإدارة عند سعاده: فكر يوجّه النظام
فالإدارة عنده ليست آلية ميكانيكية ولا مجرد جداول وأوامر، بل فكر منظم يترجم الرؤية إلى واقع. كل قرار إداري مرتبط بغاية واضحة، وكل بنية تنظيمية مشدودة إلى مبدأ أعلى. هكذا تصبح الإدارة وسيلة لتوحيد الطاقات في سبيل غاية مشتركة، لا مجرد ضبط للأفراد.
وتقوم مدرسته على مرتكزات أساسية:
ـ الفكر مصدر القرار: الوعي والرسالة هما أصل الإدارة.
ـ • الرؤية بوصلة الاتجاه: الهدف الواضح يختصر العشوائية.
ـ الأخلاق حارس العمل: فهي ما يمنع الانحراف والاستغلال.
ـ النظام أداة التنفيذ: يربط الجهود ويحوّلها إلى قوة فاعلة.
ـ القيادة: زعامة معلّم وقدوة القائد عند سعادة، في أي موقع كان، ليس موظفًا إداريًا، بل معلّم ومثال حي. فهو يلهم بالقدوة أكثر مما يأمر بالسلطة. القيادة الحقيقية تقوم على:
ـ الإلهام وبثّ الروح في الصفوف.
ـ القدوة التي تجسد القيم قبل فرضها.
ـ التربية التي تصنع وعيًا يسبق الطاعة.
بهذا المعنى تتحول القيادة إلى فعل أخلاقي، يضيء الطريق بدل أن يثقلها بالقيود.
ـ الانضباط عن قناعة: الحرية في النظام
شدّد سعاده على الانضباط كشرط للنجاح، لكنه لم يرده قسرًا أعمى، بل التزامًا نابعًا من اقتناع بالغاية. هذا الانضباط هو الوجه الآخر للحرية: حرية من الفوضى، وقدرة على توجيه الإرادة نحو الهدف.
في زمن العمل الشبكي والرقمي، حيث تغيب الرقابة الشكلية، يصبح هذا المفهوم أكثر راهنية: المؤسسة تنجح لا حين يراقب المدير موظفيه، بل حين يلتزم الجميع بوعي جماعي يحرّكهم من الداخل.
إدارة الأزمات: النظام المسنود بالفكر
حين واجه سعاده الأزمات والانقسامات، لم يكتفِ بالعقوبات، بل قرن الصرامة بالشرح الفكري. النظام عنده ليس سوطًا مسلطًا، بل حماية للجماعة وضمانة لوحدتها وفعالية عملها. وبذلك تحوّلت الأزمات إلى مدارس للتربية والتصحيح، بدل أن تكون نهايات للانقسامات.
التواصل: روح العمل الإداري
من أبرز ما ميّز إدارة سعاده أنه لم يكتفِ بخطاب المسؤولين، بل خاطب الأعضاء مباشرةً. شرح لهم الرؤية، ووجّههم في تفاصيل العمل، وحسم في خلافاتهم وترددهم، فبقيت الإدارة حيّة نابضة بالروح.
اليوم، مع الوسائل الرقمية الهائلة، يصبح هذا المبدأ أكثر حيوية: المؤسسة التي تهمل التواصل المستمر تتحول إدارتها إلى بيروقراطية ميتة، بينما التواصل الحي يجعلها جسدًا حيًا قادرًا على التكيّف والإبداع.
ـ الإبداع من داخل النظام
النظام عند سعاده ليس قيدًا على العقول، بل إطارًا يضمن وحدة الاتجاه. وداخل هذا الإطار، تُفتح فسحة واسعة للإبداع. فالإبداع ليس فوضى، بل حرية خلاقة تعمل في خدمة غاية واضحة. وهذا ما تحتاجه مؤسسات اليوم: نظام يحفظ الوجهة، وحرية تبتكر الوسائل.
مقارنة مع النظريات الحديثة
تقاطعت مدرسة سعاده مع كثير من النظريات، لكنها تجاوزتها:
ـ الإدارة العلمية (تايلور): ركزت على الكفاءة وأهملت القيم. سعاده جمع الكفاءة مع البعد الأخلاقي.
ـ البيروقراطية (فيبر): جعلت القوانين غاية. سعاده جعلها وسيلة ضمن رؤية حيّة.
ـ إدارة الجودة: اعتمدت الرقابة. سعاده سبقها بجعل الانضباط وعيًا داخليًا.
ـ القيادة الكلاسيكية: حصرت دور القائد في الرقابة. سعاده جعله معلّمًا ومصدر إلهام.
ـ إدارة الأزمات: خطط لمواجهة المخاطر. سعاده أضاف إليها تحويل الأزمة إلى فرصة تربوية.
ما يجعل مدرسة سعاده متفردة هو قدرتها على دمج النظام بالروح، والانضباط بالحرية، والأخلاق بالإدارة.
مدرسة لكل زمان ومؤسسة
مدرسة سعاده الإدارية ليست حكرًا على حزب أو طرف، بل تصلح للكثير من المؤسسات:
• في الاقتصاد، تمنح الشركات رؤية وأخلاقًا تتجاوز منطق الربح وحده.
في التعليم، تجعل المعلّم قدوة وتواصلاً حيًا.
• في السياسة، توفر للأحزاب رؤية ونظامًا وإبداعًا معًا.
لكن ماذا لو أُهملت عناصرها؟ إذا غاب الفكر غابت الغاية، وإذا غابت الرؤية عمّ التخبط، وإذا غاب الانضباط سادت الفوضى، وإذا غابت الحرية تحوّل النظام إلى قيد، وإذا غاب الإبداع جمدت المؤسسة، وإذا غابت الأخلاق صارت الإدارة سلطة عمياء.
إن قوة هذه المدرسة في دمج هذه العناصر كلها، بحيث يتوازن الفكر مع الرؤية، النظام مع الحرية، الانضباط مع الإبداع، والأخلاق مع الإدارة.
الإدارة كفعل حياة ونهضة
مدرسة سعاده الإدارية ليست من الماضي، بل هي دعوة إلى المستقبل. ففي عالم متعقّد، يقدّم سعاده صيغة بسيطة وعميقة:
اجعل الإدارة فكرًا يوجّه، وأخلاقًا تضبط، ونظامًا يوحّد، وحريةً تبتكر.
الإدارة ليست أوراقًا ولوائح، بل فعل حياة يوحّد الناس حول غاية مشتركة، ويحوّل جهودهم الفردية إلى قوة جماعية. ومثلما جعل سعاده من حركته جسدًا حيًا، يمكن لكل مؤسسة أن تصبح جسدًا حيًا إذا تبنّت هذه المدرسة.
إن مستقبل الإدارة، إذا أراد أن يكون إنسانيًا وخلاقًا، يحتاج إلى أن يستلهم ما جسّده سعاده: أن النظام بلا فكر موت، والحرية بلا انضباط فوضى، والإدارة بلا أخلاق سلطة عمياء. أما حين تجتمع هذه العناصر كلها، فتصبح الإدارة فعل نهضة، وتصير المؤسسة وطنًا مصغرًا يعبّر عن إرادة الحياة.
د. ميلاد سبعلي

