المقدّمة
تشكل التضحية إحدى القيم المحورية التي ارتبطت بمسيرة الأمم والحضارات عبر التاريخ، حيث تمثل معياراً دقيقاً لقياس صدق الانتماء وعمق الإيمان بالمثل العليا. وهي ليست مجرد فضيلة أخلاقية، بل شرط أساسي لتحقيق الحرية والاستقلال والكرامة الوطنية. في الفكر القومي الاجتماعي، تحتل التضحية مكانة مركزية باعتبارها أداة فاعلة لتحويل الإنسان من كائن غريزي فردي إلى إنسان فاعل في مجتمعه وأمته، وجوهراً للفعل النهضوي وشرطاً لا غنى عنه لانبعاث الأمة السورية من جديد. وهذا البحث يتتبع تطور هذا المفهوم في فكر أنطون سعاده، من جذوره الفلسفية والتاريخية إلى تجلياته العملية في المشروع النهضوي.
أولاً: التضحية في الفكر الإنساني والفلسفي
تعددت المقاربات الفلسفية لمفهوم التضحية عبر العصور، بحيث ارتبط هذا المفهوم بتطور النظريات الاجتماعية والسياسية. فمنذ العصور اليونانية القديمة، جعل سقراط (469 ـ 399 ق.م.) من التضحية بالحياة السبيل الأقصى للدفاع عن الحقيقة، مقدماً نموذجاً راقياً للالتزام الفلسفي. وعلى نفس المنوال، ربط أفلاطون (427 ـ 347 ق.م.) التضحية بمفهوم العدالة، معتبراً أنها لا تتحقق إلا عندما يضع الفرد مصلحة المدينة فوق مصلحته الخاصة. أما أرسطو (384 ـ 322 ق.م.)، فقد تناول التضحية من زاوية الفضيلة، معتبراً أنها تجسيد للشجاعة التي تقود الإنسان إلى الخير العام.
وفي السياق الديني، شكّلت المسيحية المبكرة نقطة تحول كبرى في مفهوم التضحية، حيث أصبحت فكرة الفداء والتضحية بالنفس مَحَوراً لاهوتيّاً أساسيّاً. هذا البعد الأخلاقي الديني امتد تأثيره إلى الفلسفة الحديثة، فجاء جان جاك روسو (1712 ـ 1778) ليرى في العقد الاجتماعي تضحية يقدمها الفرد بتنازله عن جزء من حريته الطبيعية لصالح الحرية المدنية والأمن الجماعي. وبمنظور مختلف، رأى إيمانويل كانط (1724 ـ 1804) أن التضحية الحقيقية تكمن في تجاوز الميول الشخصية استجابة لنداء الواجب الأخلاقي.[1]
أما هيغل (1770 ـ 1831)، فقد أعطى للتضحية بعداً اجتماعياً وسياسياً أوسع، معتبراً أنها ضرورة لتحقيق الروح الموضوعية للأمة من خلال اندماج الفرد في الكل الاجتماعي. وفي العصر الحديث، تطور مفهوم التضحية في أعمال ليو تولستوي (1828 ـ 1910) الذي رآها أعلى تعبير عن المحبة غير المشروطة، والمهاتما غاندي (1869 ـ 1948) الذي جعل منها أساساً للمقاومة السلمية.[2] وفي المقابل، قدم فريدريك نيتشه (1844 ـ 1900) «قراءةً مغايرةً، معتبراً التضحيةَ ليست إنكاراً للذات، بل تعبيراً عن إرادة القوة والإبداع القيمي».[3]
وفي التراث السوري الحديث، كتب جبران خليل جبران أن «المحبة الحقيقية لا تكتمل إلا بالتضحية»[4]، بينما رأت مي زيادة أن التضحية هي «تاج الفضائل» وشرط نهضة الأمم. كما تجلت التضحية في الأدب الصوفي عند الحلاج الذي جعل من استشهاده شهادة على صدق التجربة العرفانية.
ثانياً: شواهد من التاريخ الإنساني
يقدم التاريخ الإنساني سلسلة من النماذج المضيئة التي تظهر كيف شكلت التضحية أساساً لنهضة الأمم وبقائها. ففي التراث الفينيقي، تمثلت التضحية في شخصية أليسار (أليسا) مؤسسة قرطاجة، التي فضلت الانتحار على الخضوع لزواج قسري، لتصبح رمزاً للحرية والكرامة. وفي اليونان القديمة، برز الملك ليونيداس الذي قاد ثلاثمائة من جنوده في معركة الثرموبايل، مقدماً نموذجاً خالداً للتضحية الوطنية في مواجهة الغزو الفارسي.
وفي التاريخ الروماني، مثل سبارتاكوس (القرن الأول ق.م.) نموذجاً للتضحية في سبيل العدالة والتحرر، حيث قاد ثورة العبيد ضد نظام الاستعباد الروماني. وفي التراث الإسلامي، شكّلت تضحية الحسين بن علي (626 ـ 680م) في كربلاء ذروة المعنى الرمزي للتضحية في سبيل الحق والعدالة، حيث تحول استشهاده إلى مدرسة خالدة في مقاومة الظلم.
وفي العصر الحديث، قدمت ثورة مراكش ضد الاستعمار الإسباني نموذجاً عملياً للجهاد والتضحية، وهو ما أشار إليه أنطون سعاده في كتاباته المبكرة عام 1925، حيث وصف المشاركين فيها بأنهم «رجال عزومون لا يترددون في تقديم التضحية المطلوبة لنيل حقوقهم في الحياة.»[5]
أما على الصعيد السوري، فقد مثلت معركة ميسلون عام 1920 واستشهاد يوسف العظمة نموذجاً خالصاً للتضحية القومية، حيث جسّدت المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي. ويوسف العظمة (1884 ـ 1920) كوزير للحربية في الحكومة السورية الفتية، واجه بمحدودية إمكانياته جيشاً فرنسياً مجهزاً بأحدث الأسلحة. رغم علمه بعدم التكافؤ العسكري، آثر القتال على الاستسلام، قائلاً كلمته التاريخية: «إننا مستعدون لمواجهة الفرنسيين، ولن نكون أسوأ من أجدادنا الذين دافعوا عن هذه الأرض».
لقد فهم العظمة أن قيمة التضحية لا تقاس بنتائج المعركة الميدانية، بل بالرسالة التي تبعثها للأجيال القادمة. فاستشهادُه في ميسلون لم يكن هزيمةً عسكريةً، بل انتصاراً معنويّاً أصبح رمزاً للكرامة الوطنية وإرادة المقاومة. كما كتب سعاده لاحقاً، فإن معركة ميسلون كانت «بدء تاريخ الأمة السورية الحديث»[6]، لأنها أثبتت أن سورية قادرة على الدفاع عن وجودها.
ويذكر الدكتور خليل سعادة في نداء له إلى الجالية السورية في البرازيل أن العظمة «ضحى بدمه في سبيل استقلال الوطن، وجاد بحياته عمداً واختياراً في معركة ميسلون الشهيرة، حيث سقط في ساحة الشرف.. ليحيا إلى الأبد في صدور السوريين وقلوبهم.»[7] كما أضاف أن «ذكرى ميسلون من أقدس ذكريات سورية.. فهي عنوان التضحية السورية في سبيل أقدس الأغراض وأمجدها.»[8]
لقد تحول استشهاد يوسف العظمة إلى أيقونة للصمود السوري، وأصبحت ميسلون ليست مجرد معركة، بل مدرسة وطنية تعلّم أن الدم الذي يُبذل في سبيل الوطن هو إعلان صريح بأن الأمم لا تموت ما دام فيها رجال ونساء مستعدون للموت في سبيلها. وهكذا، مثلت تضحية العظمة الجسر الذي انتقلت عبره روح التضحية من التراث التاريخي إلى المشروع النهضوي الحديث.
إنّ هذه الأمثلة، على تنوّع سياقاتها التاريخية والجغرافية، تؤكد أنّ التضحية ليست حدثاً عابراً أو مجرّد بطولة ظرفية، بل فعلاً تأسيسياً في صيرورة الشعوب، ومصدراً لإلهامها. إنها قدر الأمم في صراعها من أجل البقاء والارتقاء.
ثالثاً: خليل سعاده وفلسفة التضحية
يشكل فكر العلاّمة الدكتور خليل سعاده (1857 ـ 1934) الأساس النظري الذي استند إليه ابنه أنطون في صياغة مفهوم التضحية. فقد كان خليل سعاده طبيباً ومفكراً نهضوياً دعا إلى التحرر من الاستبداد العثماني، ورأى أن النهضة لا تقوم دون استعداد للتضحية في سبيل الحرية والعلم. في كتاباته، أولى التضحية أهمية استثنائية، ووصفها بأنها «أجمل الأخلاق وأشرفها، بل هي أجمل اللآلئ في تاج الغيرية.»[9]
وأكد خليل سعاده أن الأمم والإمبراطوريات «نشأت بالتضحية وقامت بالتضحية وثبتت بالتضحية»[10]، مشيراً إلى أن غياب روح التضحية أو ضعفها هو المؤشر الأول لانحطاط الأمم. واستشهد في هذا الصدد بتاريخ بابل وآشور ومصر واليونان وروما وقرطاجة، حيث كان الانغماس في الترف والملذات مقدمة للانحدار والزوال.[11]
وشدد خليل سعاده على أن «التضحية هي أساس الاستقلال، وعماد الحرية ومظهر راق من مظاهر التمدن عند كل الأمم والشعوب.»[12] هذه الرؤية الفكرية شكلت الخلفية الفلسفية للفكر النهضوي الذي تبناه ابنه أنطون، حيث تحولت التضحية من قيمة أخلاقية مجردة إلى ركن عقائدي أساسي في المشروع القومي الاجتماعي.
[1] كانط، إيمانويل، أسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة موسى وهبة، بيروت: دار الفارابي.
[2] Gandhi, M. The Story of My Experiments with Truth, Navajivan Publishing House, 1927.
[3] فريدريك نيتشه، هكذا تكلّم زرادشت، ترجمة فليكس فارس، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1983، ص 110 ـ 115. راجع النسخة الإنكليزية: Friedrich Nietzsche, Thus Spoke Zarathustra, trans. Walter Kaufmann, Penguin Classics, 1978, Part I, “On the Gift ـ Giving Virtue,” pp. 90–95.
[4] جبران خليل جبران، الأعمال الكاملة، بيروت: دار صادر.
[5] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الأول، مرحلة ما قبل التأسيس (1921 ـ 1932)، “استقلال مراكش الاسبانية”، بيروت 1975، ص 173.
[6] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثاني 1935 ـ 1937، “الاتحاد العملي في حياة الأمم”.
[7] خليل سعادة، الرابطة – مجموعة مقالات وأبحاث متنوعة، سان باولو – البرازيل، 1971، “التضحية”، ص 118.
[8] المرجع ذاته، ص 119.
[9] حليل سعادة، “التضحية”، ص 131.
[10] المرجع ذاته.
[11] المرجع ذاته.
[12] المرجع ذاته، ص 132.

