الصحة النفسية للطلاب في لبنان أزمة صامتة تهدد مستقبل الأجيال

في ظلّ الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه لبنان، تبرز أزمة جديدة بصمت، لكنها لا تقل خطورة عن غيرها من الأزمات المتلاحقة: أزمة الصحة النفسية لدى الطلاب. إنها ليست مجرد حالة طارئة أو مؤقتة، بل أزمة متجذّرة ومتفاقمة، تهدد مستقبل جيل كامل من الشباب، وتنعكس بشكل مباشر على تحصيلهم العلمي، وطموحاتهم، وانتمائهم للمجتمع.

أرقام تفضح عمق المأساة

كشفت دراسة حديثة أجرتها منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع وزارتي الصحة والتربية في لبنان تحت عنوان «المسح العالمي لصحة الطلاب في المدارس – 2024 (GSHS)»، عن أرقام صادمة تلامس الكارثة. فقد شملت الدراسة 51 مدرسة رسمية وخاصة، وشكّلت قاعدة بيانات واقعية ومقلقة.

النتائج كانت مؤلمة:

 • 18 % من الطلاب فكّروا بالانتحار.

 • 22 % خططوا له.

14 % حاولوا تنفيذ الانتحار خلال العام الماضي.

هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن معاناة فردية، بل ترسم ملامح أزمة جماعية لجيل بأكمله، جيل كان من المفترض أن يكون شغوفاً بالحياة، طامحاً بالمستقبل، لا أسيراً لأفكار سوداء تعكس يأساً عميقاً.

لا تقف المعاناة عند حدود الاكتئاب أو التفكير بالانتحار، بل تتجسد في أعراض أعمق وأشمل:

  •  42% من طلاب الجامعات يعانون من أعراض اكتئاب متوسطة إلى حادة.
  •  36% يعانون من أعراض قلق حادة.
  • 75.1%  يظهرون أعراض إجهاد مزمن.
  • وتشير دراسات أخرى إلى أن 32.7%  من الأطفال والمراهقين في لبنان يعانون من اضطراب نفسي واحد على الأقل.

كما أن الصدمات النفسية المتكررة، مثل التعرض للعنف أو الكوارث أو الحرمان، تؤدي إلى تغييرات في وظائف الدماغ، مما يؤثر على القدرات المعرفية مثل التركيز، الانتباه، والذاكرة. يضاف إلى ذلك العلاقة الوثيقة بين الألم النفسي والأعراض الجسدية، حيث يصبح الطلاب أكثر عرضة للشكاوى الجسدية المزمنة، والتي غالباً ما تكون انعكاساً مباشراً لمعاناتهم الداخلية.

تتجاوز تداعيات هذه الأزمة الجانب النفسي لتضرب في عمق النظام التعليمي والطموحات الفردية:

  • تراجع التحصيل العلمي: لا يمكن لعقل مشغول بمعارك داخلية أن يستوعب أو يبدع. الضغط النفسي يفقد الطالب قدرته على التركيز، ويُضعف من تحفيزه للتعلم.
  • فقدان الأمل والدافعية: في ظل الظروف الاقتصادية القاسية، اضطُر العديد من الأطفال لترك الدراسة والعمل لإعالة أسرهم. يشعر الكثير منهم بأن «الأمل في المستقبل قد تبخّر»، كما نقلت تقارير منظمة اليونيسف.
  • تدهور جودة التعليم: أدت الإضرابات المتكررة والاضطرابات السياسية إلى فقدان الطلاب  765 يوماً تعليمياً منذ عام 2016. كما أن الهجرة الجماعية للأساتذة أثّرت على نوعية التعليم، وزادت الضغط النفسي على الطلاب الذين باتوا بلا توجيه ولا استقرار.

في خضم كل هذه التحديات، من الضروري أن نكفّ عن التعامل مع الصحة النفسية على أنها مسألة ثانوية. إن التحصيل العلمي، والتربية الأخلاقية، والتنمية المجتمعية لا يمكن أن تزدهر في بيئة ملوثة نفسياً. فالطالب الذي يعيش في فراغ معنوي ويأس داخلي، لا يمكن أن يُنتج أو يبدع.

ما نشهده اليوم ليس تراجعاً في الطموح أو كسلاً جماعياً، بل هو انعكاس مباشر لأزمة نفسية وطنية، تسببت بها عوامل متعددة: الأوضاع الاقتصادية، الصدمات المجتمعية، انعدام الاستقرار، غياب الدعم النفسي، وانهيار البنى التحتية التعليمية.

مواجهة هذه الأزمة تتطلب خطة شاملة وتعاوناً وطنياً حقيقياً، تتداخل فيه المسؤولية التربوية مع الصحية والاجتماعية. ولعل أبرز الخطوات الضرورية:

  1. توفير بيئة آمنة وداعمة نفسياً في المدارس والجامعات، تعتمد على الإنصات للطلاب، واحترام مشاعرهم، والتعامل مع مشكلاتهم بجدّية.
  2. تأمين الدعم النفسي المتخصص عبر تعيين أخصائيين نفسيين في المؤسسات التعليمية، وتدريب الكوادر التربوية على اكتشاف الإشارات المبكرة للضيق النفسي.
  3. إقرار استراتيجية وطنية للصحة النفسية في التعليم، تضمن استدامة الدعم والرعاية وتُبنى على أسس علمية، تشمل الوقاية والعلاج وإعادة التأهيل.
  4. تفعيل دور الإعلام والأسرة والمجتمع المدني في التوعية بأهمية الصحة النفسية، وكسر حاجز الخجل أو الوصمة المرتبطة بها.

إن شباب اليوم هم بناة الغد، وأمل الأمة لا يمكن أن يُزهر في نفوس محطمة أو عقول مثقلة بالهموم. لا يجوز أن نظلّ شهوداً على هذا النزيف الصامت، الذي يحرم آلاف الطلاب من أبسط حقوقهم: الحياة بكرامة، والتعلم بأمان، والحلم بمستقبل أفضل.

عشتار