شرق أوسط على مقصلة الاستراتيجيات الخفية بين «سكرة الموت» وفرصة اليقظة

 خلف ستار الحكومات والمنظمات والشركات، يعمل قادة الظلّ على إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق مشروعٍ غامضٍ ودقيق، يهدف إلى إعادة توزيع الثروات والنفوذ. إنهم البناؤون المجدّدون، الذين يمسكون بخيوط «استراتيجية التكوين» لإخضاع المجتمعات وإعادة صياغة مستقبلها. فهل تملك شعوب المشرق فرصة لإفشال هذا المشروع، أم أن نعش المنطقة قد صُنع بالفعل؟

لا شكّ أنّ العالم يمرُّ الآن بمرحلةٍ من إعادة التشكيل العميق لمراكزه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. تقف خلف هذا التحوّل قوىٌ اسمٍها التحليلي واحد: «البناؤون المجدّدون»  ـ  نخبة الظلّ التي توظف حكوماتٍ، مؤسساتٍ دولية، شركاتٍ، وجسورًا دينية وفكرية لصياغة «استراتيجية التكوين» التي تعيد رسم مسارات المجتمعات وفق منظومة أهداف مدروسة. هذا المقال يوضّح آليات عملهم، يشرح كيف يُعاد تشكيل الشرق الأوسط في إطار مشروعهم، ثم يقدّم خارطة طريق عملية ومقترحات مواجهة لشعوب المنطقة.

أولًا  ـ  فهم «الغموض البنّاء» و«استراتيجية التكوين»

الغموضُ البنّاء: ليس غيابه للمعلومات بالمعنى السطحي، بل تصميم واقعي مُسبق؛ أحداث ومشاهد تُعرض للعامة بصورة سطحية بينما تُخفي حسابات ومآلات مُبرمَجة. من يخلق البنية يعرف طرائقها الرياضية والاجتماعية التي تبدو للغالبية غامضة.

استراتيجية التكوين: خطة منهجية تهدف إلى إعادة هندسة التكوين الاجتماعي البشري  ـ  أي تحويل أنماط العيش، مؤسسات القرار، البنى الاقتصادية والثقافية  ـ  بحيث تصبح حركة الشعوب قابلة للتوجيه والتحكم عن بُعد عبر أدوات بشرية ومؤسساتية وتقنية. الهدف النهائي ليس الفوضى بحد ذاتها، بل إعادة ترتيب المصالح العالمية والمحلية في شبكة تمكينية تُسهم في بقاء نفوذ هذه النخبة وتوسيع مصادر سلطتها وثرواتها.

ثانيًا  ـ  من هم البنّاؤون المجدّدون وما أدواتهم الأساسية؟

هم ذوو أصولٍ متعددة: سياسيون سابقون، قيادات اقتصادية كبرى، مدراء صناديق استثمار، شبكات استشارية فكرية، وبعض حلقات مؤسسية دينية أو طرقٍ تأثيرية. آلياتهم العملية تتوزع على محاور رئيسية:

1. المدخل الديني/الفكري

إعادة تفسير الخطاب الديني أو استثمار الانقسامات العقائدية لزرع انقسامات اجتماعية أو لهب نزاعات.

دعم قيادات روحية أو فكرية تقود جمهورًا مهيئ سياسياً.

2. الحكومي والسياسي

تقوية أنظمة موالية أو إسقاط أخرى عبر دعم مباشر أو تآكل اقتصادي/سياسي مُمنهج. إبرام اتفاقيات أمنية واقتصادية تُقوّض سيادة سياسات محلية لصالح سياسات إقليمية/عابرة.

3. المؤسسات الدولية والمالية

استخدام شروط القروض والبرامج التنموية لتمرير سياسات خصخصة وهياكل مالية تُقوّض القدرة الوطنية على التحكم في الموارد.تسخير الخطاب الإنساني كغطاء لتدخلات استراتيجية.

4. القطاع الخاص والشركات العابرة

السيطرة على سلاسل الإمداد والموارد الأساسية (طاقة، اتصالات، غذاء).

بناء بنى تكنولوجية إعلامية توفر أدوات توجيه الرأي العام وجمع البيانات للتحكم الاجتماعي.

5. العمليات الخفيفة والمتدرجة

خلق أزمات متتابعة (اقتصادية، أمنية، سياسية) لإملاء حلول مُتسلسلة تبدو عمليةٌ لكنها تقوّض الحريات.

استعمال حملات معلوماتية مركّزة لتشويه بدائل المقاومة وإضعاف الثقة بالقيادات المحلية.

ثالثًا  ـ  ماذا يعني «إعادة تشكيل شرق أوسط جديد» ضمن مشروعهم؟

عند الحديث عن «إعادة تشكيل شرق أوسط جديد» لا نعني مجرد تغيير خرائط السلطة الجغرافية فقط؛ المقصود أكثر تعقيدًا: إعادة رسم قواعد التوزيع الاقتصادي والسياسي والثقافي بحيث:

تُعاد هندسة تحالفات الدول لخدمة خطوط إمداد وطرق تجارية تحت سيطرة جهات فاعلة محددة.

تُستَخدم الموارد الطبيعية لإعادة توجيه اقتصاديات البلدان نحو مزيد من الترابط مع أسواق خارجية تضمن تدفق أرباح وإدارة مخاطر لصالح لاعبين كبار.

تُعاد كتابة قواعد الحوكمة الداخلية عبر ضغوط مُؤسسية (شروط قروض، «برامج إصلاح»، اتفاقيات أمنية) تقوّض استقلال القرار المحلي.

تُخلق شرائح اجتماعية جديدة تعتمد اقتصادياً وسياسياً على كيانات خارجية، ما يقلل من قدرة الدولة والمجتمع على التحرّك المستقل.

باختصار: الهدف صناعة بنية إقليمية قابلة لإدارةٍ مركزية غير مرئية، حيث تضمر السيادة الوطنية تحت أنظمة معقّدة للنفوذ الاقتصادي والتقني والسياسي.

رابعًا  ـ  خطة مواجهة عملية لشعوب وحركات المشرق (خارطة طريق من 6 محاور)

البديل الحقيقي ليس في انتظار أن تتبدّل الأوضاع عبر طروحات كبرى وحدها، بل في بناء قوّةٍ مجتمعية منظّمة، مرنة ومتصِلَة، تستطيع مقاومة آليات البنّائين تدريجياً. فيما يلي خطة عملية قابلة للتطبيق بمستويات محلية وإقليمية:

1) بناء قابليات إعلامية ومعلوماتية مستقلة

تأسيس منصات إعلامية إقليمية مُموَّلة من المجتمع المدني والشتات تُديرها فرق صحّية وشفافة.

برامج تدريب في محو الأمية الإعلامية والسايبرية على مستوى المدارس والمساجد والنوادي الثقافية.

شبكات رقابة مجتمعية على الأخبار الكاذبة وحملات التضليل مع آليات إبلاغ سريعة.

خطوات تطبيقية قصيرة المدى: ورشات تدريب محلية، إطلاق قنوات يوتيوب/بودكاست مشتركة بين منظمات المجتمع المدني، شراكات مع جامعات لإنتاج تقارير مبسطة.

2) المقاومة الاقتصادية والبناء البديل

تنمية سلاسل قيمة محلية: تشجيع المشاريع الصغيرة والتعاونية في الزراعة والطاقة المتجددة والصناعات المحلية.

تأسيس صناديق تمويل محلية وتعاونية (microfinance & credit unions) تقلّل الاعتماد على مؤسسات دولية مشروطة.

دعم سياسات حماية للسوق المحلي ضد التفرد والاستغلال عبر حملات تشريعية وضغط مجتمعي.

خطوات تطبيقية قصيرة المدى: جمعيات تعاونية للمزارعين، منصات تسويق إلكتروني محلية، شراكات بين بلديات ومبادرات خاصة.

3) إعادة إنتاج قيادة وطنية رشيدة وقابلة للاستحقاق

برامج توعية سياسية مدنية تُعزز مفاهيم الحوكمة، المساءلة، الشفافية.

دعم قوى سياسية مدنية قائمة على برامج واضحة وليس على هويات طائفية/اقطاعية.

آليات محلية للشفافية في الموازنات والمناقصات عبر بوابات مفتوحة للجمهور.

خطوات تطبيقية قصيرة المدى: حملات محلية لمراقبة انتخابات بلدية، منظمات محلية تطالب بنشر عقود واستثمارات البلدية، دورات قيادية للشباب.

4) تحالفات إقليمية ومبادرات تضامنية عبر الحدود

تأسيس منتديات مدنية إقليمية (شاملة لواسطات مدنية، أكاديمية، وقطاع خاص أخلاقي) لتبادل الخبرات والضغط المشترك.

مبادرات تبادل تجاري صغير تسهّل عبر اتفاقات محلية بين محافظات ومجتمعات مجاورة.

شبكات تضامن إنساني تقاوم أدوات الضغط الإقليمي وتدعم استقرار المجتمعات المحلية.

خطوات تطبيقية قصيرة المدى: مؤتمرات مدنية إقليمية سنوية، شراكات بين جمعيات أهلية عبر الحدود، برامج تبادل شبابي.

5) المواجهة القانونية والدبلوماسية متعددة الطبقات

استثمار القضاء الدولي والمحلي لمساءلة الفساد وجرائم انتهاك الحقوق الإنسانية، واستخدام آليات قانونية لكشف توصيات ولوائح تؤثر على السيادة.

توثيق ممنهج للانتهاكات الاقتصادية والسياسية لتغذية قضايا دولية ومناشدات عامة.

استخدام المنابر الدبلوماسية والشتات للضغط عبر ممارسات مدنية منظمة (lobbying مدني، حملات توقيع، فضح عقود مشبوهة).

خطوات تطبيقية قصيرة المدى: مجموعات توثيق مدربة، نشر ملفات أدلة، تحالف مع مراكز أبحاث قانونية في الخارج.

6) الاستثمار في التعليم والابتكار والتقنية المقاومة

تعليم مهارات رقمية وأخلاقية للشباب لتقوية الاستقلالية التقنية (open-source tools، تشفير أساسي، حوكمة بيانات).

إنشاء حضانات أعمال محلية تدعم حلولًا تكنولوجية تخدم الأمن الغذائي والطاقة والتعليم.

برامج تبادل بحثي وتشبيك بين جامعات محلية وجامعات بالمهجر.

خطوات تطبيقية قصيرة المدى: دورات تدريبية في البرمجة والريادة، حاضنات أعمال مدعومة من المجتمع المدني، مسابقات ابتكار محلية.

خامسًا  ـ  مخاطبة المخاطر والتحديات الواقعية

الانقسام الداخلي: نجاح أي خطة يتطلب تجاوز الانقسامات الطائفية والجهوية. هذا صعب لكنه قابل للتدريب عبر مشاريع مشتركة مفيدة واقتصادية.

قوة النفوذ الخارجي: لا يمكن إنكار قدرة اللاعبين الكبار؛ لذلك نحتاج إلى تكتيكات مرنة (شبكات لا مركزية) بدل مواجهة تقليدية على مستوى الدولة فقط.

التمويل والإرهاق: موارد المجتمع المدني محدودة؛ لذا التركيز على مشاريع قابلة للاستدامة الاقتصادية أمرٌ أساسي.

القمع الأمني: يجب تطوير بروتوكولات حماية للناشطين (قانونية، تقنية، لوجستية) والعمل عبر تحالفات إقليمية ودولية لردع الانتهاكات.

سادسًا  ـ  مؤشرات نجاح قابلة للقياس خلال 1-3 سنوات

تأسيس 20 ـ 50 مبادرة تعاونية محلية ناجحة في قطاعات الزراعة/الطاقة/التصنيع الخفيف.

إطلاق منصتين إعلاميتين إقليميتين مستقلتين بحضور نشط ومتابعة ربع سنوية تعرض تحقيقات وثائقية.

وجود تحالف مدني إقليمي واحد على الأقل يضم مجموعات من ثلاث دول قريبة تعمل على مشاريع مشتركة.

شبكات دفاع رقمي تعمل بانتظام لحماية ناشطين وإطلاق تقارير شفافية منتظمة.

خاتمة: بين التحذير والأمل العملي

إنَّ أداة البنّائين المجدّدين ليست سحرًا لا يقهر، بل مجموعة من آليات بنيوية واقتصادية وسياسية يمكن دراستها ومواجهتها بخططٍ عملية متدرجة تُبنى على وعي جماعي وتنظيم مدني واقتصاد مواطني مستدام. إعادة تشكيل المشرق ليست مهمة سريعة؛ لكنها ليست مستحيلة. من يقِف في وجه مشروعٍ كبير لا يحتاج إلى أبطال استعراضيين، بل إلى شبكات مخلصة قابلة للتعلم، تملك أدوات اقتصادية وإعلامية وقانونية وتعمل بتناسق طويل الأمد.

المعركة الحقيقية ليست لمحاولة عزل النفوذ الخارجي وحده، بل لبناء قدرة محلية بديلة  ـ  اقتصاد، إعلام، قيادة، وتعليم  ـ  تجعل أي مشروعٍ توقعي من خارج المنطقة أقل قدرة على فرض شروطه. والموت الحقيقي كما جاء في النص الأصلي: التوقف عن المحاولة؛ فإذا استمرّ المشرق في المحاولة المُنظَّمة، فالأمل يبقى.