لم تعرف العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية وفنزويلا حالة من الانسجام السياسي والعسكري. فعلى مر العقود ساد التوتر والتشنج بينهما، كما سادت عقوبات متبادلة واتهامات بالتآمر والانقلابات تاريخياً. اليوم وفي ظل عودة التوترات بينهما، يترقب العالم لحظة ما سيحدث بينهما ويُطرح السؤال: هل وصل الجانبان إلى نقطة اللاعودة؟
الأزمة بين فنزويلا والولايات المتحدة الأميركية تعود إلى عشرات السنين، وتمر من وقت إلى آخر في حال تصعيد من الجانب الأميركي يصل إلى التهديد من قبله بالتدخل العسكري وتنفيذ ضربات بحجة استهداف عصابات المخدرات في فنزويلا.
منذ ولاية رئاسته الأولى ودونالد ترامب يحاول عزل الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو تارة عبر العقوبات والدعم العلني للمعارضة الفنزويلية وتارة أخرى عبر التهديد بالتدخل العسكري. ففي عام 2017 صرح ترامب بأن فنزويلا تمثل تهديداً للأمن القومي الأميركي مصعداً لهجته كما لم يصعّدها أي رئيس أميركي قبله مؤكداً أنه لا يستبعد الخيار العسكري. وبلغت المواجهة ذروتها عام 2019 حين أعلن ترامب خوان غوايدرو رئيساً مؤقتاً لفنزويلا زاعماً أن مادورو زوّر الانتخابات. وقد أخفقت جميع محاولات ترامب للإطاحة بمادورو بعد أن وقف الجيش إلى جانبه. خلال الولاية الثانية لترامب انخفضت حدة النبرة قليلاً إذ أكد ترامب أنه لا يسعى إلى تغيير النظام في فنزويلا وإنما يركز فقط على محاربة المخدرات.
ازدياد حدة التوتر بين البلدين يعود لعوامل عدة إلا أن أهمها هو عين الولايات المتحدة الأميركية على النفط الفنزويلي، إذ تمتلك فنزويلا أكبر احتياطي نفطي في العالم بنسبة تقارب 18% من إجمالي الاحتياطيات العالمية. لقد أصبحت فنزويلا محط اهتمام كبريات شركات الطاقة الأميركية منذ اكتشاف النفط بها بكميات ضخمة في أوائل القرن العشرين، وسيطرت شركات الطاقة الأميركية على ثروة البلاد من النفط لعقود طويلة، وقد اعتمدت واشنطن على النفط الفنزويلي لعقود، لكن التحول الجذري بدأ مع انتخاب هوغو تشافيز عام 1999 رئيساَ، والذي تبنى خطاباً معادياً للهيمنة الأمريكية، واقتربت فنزويلا من روسيا والصين وإيران وكوبا، واتبعت سياسات اشتراكية يسارية حتى وفاته عام 2013. الجدير ذكره أن الصين أصبحت في فنزويلا، المصدَر الأكبر لواردات البلاد بنسبة وصلت إلى %34.6، وهي وفق تقرير رويترز الصادر عام 2025، أكبر مشترٍ للنفط الفنزويلي، حيث تحصل على نحو 503 آلاف برميل يومياً من النفط الخام الفنزويلي.
وكان تشافيز قد أقر عام 2001 قوانين لتأميم قطاع النفط وأعاد النظر بكميات تصديره لأمريكا، فكانت الشرارة الأولى. في عام 2013 عرفت فنزويلا أزمة اقتصادية خانقة تفاقمت مع انهيار أسعار النفط في 2014، لتبدأ بعدها سلسلة العقوبات الأمريكية التي أطلقتها واشنطن عام 2015، ووسعتها عام 2017 لتشمل قطاع النفط الفنزويلي بالكامل. نيكولاس مادورو الذي خلف الرئيس شافيز، اتبع خط سلفه الاشتراكي، فزاد الاقتصاد تدهوراً وزادت عزلة فنزويلا، مما أدى إلى هجرة ما يزيد عن 7 ملايين من مواطني فنزويلا المقدر عددهم بما يقرب من 30 مليون نسمة، وفرضت واشنطن العديد من العقوبات على فنزويلا وطبقتها الحاكمة ورفضت الاعتراف بشرعية انتخاباتها الرئاسية، وفي 2020 اتهمت وزارة العدل الأميركية الرئيس مادورو بتجارة المخدرات وتهريبها إلى الولايات المتحدة وبغسل الأموال.
قبل الرئيس ترامب قامت إدارة الرئيس جو بايدن وقبل مغادرته البيت الأبيض، بوضع مكافأة 15 مليون دولار للقبض على مادورو. وأذن ترامب الذي سعى منذ فترة طويلة للإطاحة بالرئيس مادورو، بمكافأة قدرها 50 مليون دولار مقابل أي معلومات تؤدي إلى اعتقاله.
وضمن سياسة الحد من الهجرة غير النظامية إلى الولايات المتحدة، اتهمت إدارة دونالد ترامب فنزويلا بتسهيل دخول ملايين المهاجرين غير النظاميين إلى الأراضي الأميركية، إضافة إلى رعايتها تجارة المخدرات عبر جزر وممرات مائية في البحر الكاريبي أو من خلال التهريب البري عن طريق المكسيك.
الولايات المتحدة ربما تدرك أن أي تدخل عسكري في فنزويلا، سيواجه بمقاومة مسلحة قوية، ولن يحظى بشعبية في الداخل الأميركي لأنه سيتعارض مع موقف ترامب المعلن بعدم التدخل في حروب برية. من هنا يدعي ترامب أن نزاعه مع مادورو هو معركة ضد «إرهاب المخدرات»، ويسعى لتحويل الصراع من عمليات عسكرية إلى اجراءات مالية أكثر فاعلية في الحد من تجارة المخدرات.
فنزويلا من جهتها لن تقف مكتوفة الأيدي حيال التهديدات الأميركية. فقد هدد الرئيس مادورو خلال الشهر الحالي أن بلاده ستنتقل إلى مرحلة الكفاح المسلح إذا تعرضت لأي هجوم أميركي. وهذا ما أعلنه خلال اجتماعه مع قادة عسكريين في العاصمة كاراكاس، لبحث تهديد الرئيس الأميركي دونالد ترامب إذ قال «نحن حالياً في مرحلة كفاح غير مسلح، وهي مرحلة سياسية واتصالية ومؤسساتية. لكن إذا تعرضت فنزويلا لهجوم، فإننا سننتقل إلى مرحلة الكفاح المسلح». مضيفاً «لا يمكن لأحد أن يستعبدنا. يجب على الولايات المتحدة أن تتخلى عن خططها لتغيير النظام في فنزويلا بالعنف». وكان مادورو قد أعلن أن 2.5 مليون جندي جاهز للدفاع عن فنزويلا، وأن بلاده تتحضر لـ «عدوان شامل».
فهل تفعلها الولايات المتحدة الأميركية ولو لمرة واحدة وتتخلى عن سياسة الهيمنة وتحترم إرادة الشعوب وسط التغيرات العالمية والجيوسياسية؟.

