هذا المقال مُهدى للذِّكرى السَّنويَّة التَّاسعة والتِّسعين لانتفاضة البلقاء المجيدة واستشهاد الشَّيخ صايل الشهوان ورفاقه فيها..
الشَّرف الرَّفيع
في 14 تمّوز/يوليو 1920، وعلى طريق تنفيذ اتِّفاقيَّة سايكس بيكو بين الاستعمارين البريطانيّ والفرنسيّ، وجَّه الجنرال غورو، قائد القوّات الفرنسيّة الَّتي جاءت لاحتلال سوريا، إنذاره الشَّهير للحكومة السّوريّة الَّتي كانت قائمة آنذاك. وقد اشتمل الإنذار على الإملاءات التَّالية: قبول الانتداب الفرنسيّ، وتسريح الجيش السّوريّ، والموافقة على احتلال القوّات الفرنسيّة لمحطَّات سكك الحديد السّوريّة، وقبول تداول ورق النَّقد الفرنسيّ، ومعاقبة المتورِّطين في عمليَّات عدائيَّة ضدَّ فرنسا.
كانت سوريا – آنذاك – هي سوريا الطَّبيعيّة (أو الكبرى) الَّتي تشمل سوريا الحاليّة والأردنّ وفلسطين ولبنان. اجتمع الملك فيصل، ملك سوريا الطَّبيعيّة آنذاك، مع حكومته، وأعلنوا جميعاً – باستثناء وزير الدِّفاع يوسف العظمة – قبولهم الإنذار وتنفيذ ما جاء فيه؛ بل إنَّهم كانوا قد شرعوا بالفعل بتنفيذ بعض البنود، وتحديداً بند حلّ الجيش.
حاول يوسف العظمة ثنيهم عن قرارهم ذاك؛ لكن بلا جدوى. وعندئذٍ، ردَّد على مسامعهم بيت الشِّعر الشَّهير للمتنبِّي، الَّذي يقول:
«لا يسلمُ الشَّرف الرَّفيع من الأذى
حتَّى يراقُ على جوانبه الدَّمُ».
ثمّ قال إنَّه يطلب الإذن ليموت، وإنَّه يترك ابنته الوحيدة ليلى أمانةً لديهم. وخرج، بمَنْ تبقَّى معه من الجيش الَّذي تمَّ تسريحه، لملاقاة الغزاة.
وقعت معركة ميسلون صباح يوم 24 تمّوز/يوليو 1920، وكانت النَّتيجة محسومة سلفاً؛ فالجيش الغازي كان مسلَّحاً بالطَّائرات والمدافع والدَّبّابات، في حين لم يكن لدى الجيش السّوريّ لا دبَّابات ولا مدافع ولا طائرات. وبعد حوالي ساعة، أُستُشهِدَ القائد يوسف العظمة وهو يقاتل ببسالة مع جيشه.. بالأحرى، مع بقايا جيشه. كان شابّاً في السَّادسة والثَّلاثين مِنْ عمره، وكلّ ما كان يهمّه هو أن لا يسجِّل التَّاريخ أنَّ دمشق قد اُحتُلَّتْ مِنْ دون مقاومة.
بالنِّسبة للَّذين يحتكمون للمعايير التِّجاريّة، كانت هذه مجرَّد معركة خاسرة، وكان خوضها حماقة محض.. لأنَّ الخسارة فيها معروفة سلفاً. أمّا بمعايير القيم الوطنيّة والإنسانيّة، وبمعايير التَّاريخ ودروسه وعِبَره، فقد كانت هذه أمثولة بطوليّة مجيدة. ولذلك، فاِسم ميسلون (المعركة) يزيّن الآن الكثيرَ من الشَّوارع والمَحالّ والأماكن في مختلف أنحاء العالم العربيّ.. رغم أنَّها كانت معركة خاسرة.
أولئك الصِّيدُ آبائي
مِنْ عقابيل سايكس بيكو ووعد بلفور صُنِعَتْ التراجيديا الأردنيّة. تراجيديا شعب أُخِذتْ منه بلاده بقوّة الاستعمار البريطانيّ، وحُرِمَ مِنْ حقِّه في تقرير مصيره، ومِنْ حُكم نفسه بنفسه، وجاء الاستعمار بنظامٍ من الخارج ونصَّبه على البلاد ليقوم (فيها وبها) بدورٍ وظيفيٍّ يندرج في إطار ترتيبات تنفيذ وعد بلفور. [لمزيدٍ من المعلومات، في هذا الشَّأن، يمكن الرّجوع إلى مقالي «الذِّكرى التِّسعون “للكتاب الأسود في القضيّة الأردنيّة العربيّة”»، المنشور في مدوَّنتي «مدوَّنة سعود قبيلات»؛ ويمكن الرجوع أيضاً إلى مقالي «تراجيديا أردنيّة فصولها تترى»، وهو منشور في مدوَّنتي أيضاً؛ وكذلك مقالي «تاريخ الأردنّ المغيَّب وتكريم الدّكتور عصام السَّعدي»، في المدوَّنة نفسها كذلك].
لقد تمَّ الأمر على النَّحو التَّالي: التقى عبد الله الأوَّل بتشرشل (وزير المستعمرات البريطانيَّة، آنذاك) في القدس في 28 آذار 1921، ولم يصطحب معه لحضور اللقاء سوى كاتبه الخاصّ عوني عبد الهادي الَّذي كان أصلاً هو الوسيط مع البريطانيين لترتيب ذلك اللقاء. [«عامان في عمَّان» – خير الدِّين الزركلي – ص 88].
تقرّر في لقاء القدس، ذاك، أن يقيم عبد الله الأوَّل حكماً محلِّيَّاً في «شرق الأردن» «بمعاونة ضابط سياسيّ بريطانيّ يعمل بصفة رئيس مستشارين لعبد الله»، وأن يكون ذلك تحت التَّجربة لمدَّة ستَّة أشهر. [«الحركة الوطنيَّة الأردنيَّة 1921 – 1946» – الدّكتور عصام السَّعديّ. ص 100].
ويقول الدّكتور عصام السَّعدي، محقَّاً، عن السُّلطة الَّتي أنتجها لقاء القدس بأنَّها: «هبطت على جماهير البلاد من الخارج في مطلع نيسان/ إبريل عام 1921، خارج الإطار الموضوعيّ والذَّاتي المحلِّيّ» – [المرجع السَّابق – ص 13]
«وقد واجه اتِّفاق القدس (ذاك) معارضة جميع القوى الاجتماعيَّة/ السِّياسيّة الأردنيَّة» – [المرجع السَّابق].
ويفسِّر الدّكتور السَّعديّ أسباب هذه المعارضة بما يلي:
تمّ إبرام الاتِّفاق مِنْ دون استشارة أو موافقة أيّ مِنْ ممثِّلي «شرقي الأردن»، وأوَّل حكومة انبثقت عنه لم تضمّ سوى أردنيّ واحد، هو علي خلقي الشَّرايري. وسرعان ما أُخرِج الشَّرايري من الحكومة بطلبٍ من السُّلطات الفرنسيَّة الَّتي اتَّهمته بالوقوف خلف عمليَّات المقاومة المسلَّحة ضدَّها. [المرجع السَّابق – ص 102، 103، 119]
ويُضيف الدّكتور عصام السّعدي، في كتابه الَّذي سبقت الإشارة إليه، قائلاً:
«تمَّ استثناء الأردنيين كلِّيَّاً مِنْ تقرير مصيرهم، أو حتَّى المشاركة في تقرير مصير وطنهم، فالأمير مثلاً لم يشرك أحداً مِنْ شيوخ وزعماء البلاد بأيّ مسألة تخصّ وطنهم، بل لم يستشر أحداً منهم على الإطلاق». [المرجع السَّابق – ص 103]
ولكي تكتمل الصّورة، لا بدّ أن نرجع قليلاً إلى الوراء.. إلى العام 1920.. آنذاك، كانت الحياة السِّياسيَّة في البلاد قد ضجَّت بالتَّحرُّكات المعادية لاتِّفاقيَّة سايكس بيكو ووعد بلفور والاستعمار الفرنسي والبريطانيّ والاستيطان الصّهيونيّ، وسعى الأردنيّون بكلّ ما يملكون من الشَّجاعة والعزم إلى مواجهة هذا الواقع الصّعب الَّذي فُرِضَ على بلادهم وعلى الدِّيار السُّوريَّة بعمومها. فعُقِدَتْ في البلاد سلسلة من المؤتمرات الوطنيَّة («مؤتمر قَم»، و«مؤتمر أمّ قيس» و«مؤتمر السَّلط»). في «مؤتمر قَم»، مثلاً، تقرَّر تشكيل فصيل مسلَّح للنِّضال ضدّ الاستعمار (الفرنسيّ والبريطانيّ) ولمهاجمة المستوطنات الصّهيونيَّة. وبالفعل، تمّ تشكيل هذا الفصيل بقيادة الشَّيخ كايد المفلح العبيدات. وبعد مدَّة قصيرة، قام الفصيل بمهاجمة المستوطنات الصّهيونيّة في بيسان، فتصدَّت له قوّات الاستعمار البريطانيّ، ودارت معركة باسلة استُشهِدَ فيها الشَّيخ كايد العبيدات وعدد مِنْ رفاقه.
هكذا كان يفكِّر الأردنيّون ويعملون ويحلمون؛ لكنّ ما دبَّره الإنجليز مع أتباعهم كان نقيضاً تامَّاً لما أراده الأردنيّون وحلموا به وعملوا مِنْ أجله..
ولإعطاء صورة واضحة عن هذا التَّناقض الهائل، نورد مقارنةً مهمَّة أجراها الدّكتور عصام السَّعديّ، في كتابه الَّذي سبقت الإشارة إليه، بين نتائج اتِّفاق القدس الَّذي تمَّ في لقاء عبد الله تشرشل وبين بنود معاهدة أم قيس 2 أيلول/ سبتمبر 1920 الَّتي تمَّت بين زعماء ووجهاء شمال الأردن وبين المعتمد البريطانيّ الميجور سومرست، حيث يرى أنَّ اتِّفاق القدس مثَّل تراجعاً ملموساً عن معاهدة أم قيس، على النَّحو التَّالي:
- «بينما لم يرد اعتراف بسقوط الدَّولة العربيّة السُّوريَّة في اتِّفاق أم قيس، استند اتِّفاق عبد الله/ تشرشل إلى ذلك وكرَّسه»؛
- 2. «بينما أقرَّتْ معاهدة أمّ قيس مبدأ السِّيادة الوطنيّة، وعدم تسليم “المجرمين السِّياسيين”، بمعنى آخر أعطت “شرق الأردن” حقّه القانونيّ في ممارسة وتشجيع المقاومة الوطنيّة المسلَّحة ضدَّ الاحتلال الفرنسيّ، فإنَّ اتِّفاق القدس تضمَّن بنداً ينهي حالة العداء مع الاحتلال الفرنسي، ويضمن سلامة الحدود مع سورية وفلسطين»؛
- «في حين أكَّدت اتِّفاقيَّة أمّ قيس على إنشاء جيش “محلِّيّ” وطنيّ، أشارت اتِّفاقيّة القدس إلى “إقامة قوَّة لحفظ الأمن”، ليس إلا»؛
- «في الوقت الَّذي رفضت فيه معاهدة أمّ قيس إعطاء السُّلطات البريطانيّة حقَّ الوجود العسكريّ في “شرقي الأردن”، أجازت اتِّفاقيّة القدس ذلك»؛
- «في وقتٍ تضمَّنت فيه اتِّفاقيّة أمّ قيس بنوداً واضحة تتعلَّق بمنع الهجرة اليهوديّة إلى “شرقي الأردن” وشراء اليهود لأرضٍ فيه، وتأكيد حرِّيَّة التَّبادل التِّجاريّ مع الأقطار المجاورة، والحقّ في إقامة علاقات دبلوماسيّة دوليّة، وتأكيد عدم علاقة “شرقي الأردن” بحكومة الانتداب البريطانيّ في فلسطين… الخ، فإنَّ تِّفاق عبد الله/ تشرشل لم يتضمَّن شيئاً مِنْ هذا».
ويخلص الدَّكتور السَّعديّ إلى القول: «كان طبيعيّاً والحالة هذه أن يرى الوطنيّون الأردنيّون في اتِّفاق القدس تنازلاً عن الطَّابع الوطنيّ لشرقي الأردن، وتفريطاً بمكتسباتٍ حصلت عليها البلاد سابقاً». [المرجع السَّابق – ص 104].
ويضيف قائلاً: «كلّ ذلك وجد تعبيراته المعلنة والمباشِرة في انتفاضة الشريَّدة في شمال البلاد في تمّوز عام 1921، وانتفاضة العدوان في آب من عام 1923». [المرجع السَّابق – ص 105]
أمثولة انتفاضة البلقاء
وقعت انتفاضة البلقاء في 16 أيلول/سبتمبر من العام 1923، وكانت بقيادة الشَّيخ ماجد العدوان. وقد حدَّد اجتماع «أمّ البساتين»، الَّذي انطلقت الانتفاضة منه، مطالب الشَّعب الأردنيّ بما يلي:
«1. إقامة حكم وطنيّ؛
2. تأسيس مجلس نيابيّ تكون الحكومة مسؤولة أمامه؛
3. إقالة حكومة مظهر رسلان والعمل على إنجاز استقلال البلاد؛
4. إشراك أبناء البلاد في مسؤوليَّة الحكم، وإيجاد فرص عمل للمثقَّفين العاطلين عن العمل؛
5. الحدّ مِنْ سلطات الأمير؛
- إطلاق الحُرِّيَّات العامَّة؛
- إلغاء الضَّرائب والدِّيون المستحقَّة على الفلَّاحين لسنة 1923». [المرجع السَّابق – ص 166]
أُقيلت حكومة مظهر رسلان، على إثر ذلك، وتمَّ تشكيل حكومة جديدة برئاسة حسن خالد أبو الهدى. وفي اجتماعٍ لها عُقِدَ في تاريخ (6/9/1921)، قرَّرت الحكومة الجديدة «اعتقال عددٍ من العناصر الوطنيّة الأردنيّة الَّتي أيَّدت وتعاطفت ودعمت برنامج الانتفاضة، مِنْ بينهم:
أ. عودة القسوس – عضو محكمة الاستئناف؛
ب. شمس الدِّين سامي – محامي؛
ج. الرَّئيس صالح النَّجداويّ – مساعد قائد منطقة الكرك؛
د. مصطفى وهبي التَّلّ – مدير ناحية وادي السِّير (البلقاء)؛
ه. أديب وهبه – وزير (مدير) المعارف السَّابق.». [المرجع السَّابق – ص 169].
وجرى تنفيذ حملة الاعتقالات بالفعل.
وعلى إثر ذلك، تحرَّك الثَّائرون مِنْ حسبان باتِّجاه عمَّان في مساء يوم (6/9/1923).
وقد واجه الإنجليز والسُّلطة التَّابعة لهم الانتفاضة بالمدرَّعات والطَّائرات، رغم أنَّ المنتفضين لم يكونوا يحملون سوى أسلحة فرديَّة.
رأى «القائدُ العسكريُّ» للانتفاضة، الشَّيخ صايل الشهوان، القوى العاتيةَ الَّتي حُشِدَتْ لمواجهة المنتفضين، فشعر بالقهر وبغصّة الإحساس بالظّلم وغطرسة الظَّالمين، وأبى على نفسه أنْ يستسلم أو يهرب أو يهون، بل اختار أن يسجِّل أمثولةً بطوليّةً مجيدة تبقى على مرِّ السِّنين، كتلك الَّتي سجَّلها يوسف العظمة قبل ثلاث سنين، فهجم على ظهر فرسه، كبطلٍ تراجيديّ نموذجيّ، وبعزيمةٍ استشهاديّةٍ باسلة، ليواجه المدرَّعات بسيفه وبندقيّته، وسرعان ما قضى شهيداً في صبيحة ذلك اليوم الأغرّ الدَّامي.
كان الشّيخ جديع أبو قاعود، جالساً على سرج فرسه إلى جانب رفيقه الشَّيخ صايل الشهوان عندما اختار هذا الأخير مصيره التراجيديّ البطوليّ ذاك، ثمَّ رآه وهو يهوي صريعاً بنيران المدرَّعات؛ لكنَّه، بدلاً مِنْ أنْ يعتبر ويرتعب، أبى على نفسه هو أيضاً أنْ يستسلم أو يهرب، فـ«لكد» على فرسه وانطلق في إثر رفيقه نحو المدرَّعات بسلاحه الفرديّ، وسرعان ما قضى شهيداً هو أيضاً.
وتلك غصَّةٌ ورثها الوطنيّون الأردنيّون جميعاً. قال الشَّاعر الرَّاحل حبيب الزيوديّ، بعد سبعين عاماً مِنْ أمثولة صايل الشهوان ورفاقه التراجيديّة تلك:
«سبعون عاماً وما زلنا نعاتبه
على الجنون فلم يسمع لنا عتبا».
ما فعله صايل الشهوان وصحبه كان أيضاً حماقه في العرف التِّجاريّ وفي عُرف البزنس وأصحابه. وقال حبيب الزيوديّ عن هؤلاء (في قصيدةٍ له عن صايل):
«لعلّ من قطفوا مِنْ صبرنا ذهباً
ومِنْ مواجعنا أن يشبعوا ذهبا».
وعلى أيَّة حال، بالنِّسبة للشُّعراء الأردنيين الوطنيّين، وبالنِّسبة للوطنيين الأردنيين عموماً، فإنَّ ذِكر صايل ورفاقه، كنماذج للبطولة والمجد، لا يغيب عنهم مطلقاً. حيث قال الكثير مِنْ الشُّعراء قصائد تمجِّد هذه المأثرة البطوليّة متَّخذين الشَّهيد صايل الشهوان نموذجاً لها:
الفارس والشَّاعر الشَّعبيّ الأردنيّ باجس الرحيِّل، امتلك الشَّجاعة ليرثي صايل الشهوان أمام الأمير عبد الله وأعوانه، مباشرةً، بقصيدةٍ نبطيّة، مِنْ ضِمن ما قاله فيها:
«طَاحْ الحصان اللي عليه البرانيس
واللي تقلَّط للقحوص العزومي»
أمَّا شاعر الأردنّ مصطفى وهبي التَّل «عرار»، فقد أقسم بدم صايل وساواه ببقاعٍ عزيزةٍ من الأرض الأردنيّة، وقال:
«قسَمَاً بماحص والفحيص
وبالطّفيلة والثَّنيّةْ
وكُرومِ جلعاد الأشمِّ
وتُربةِ الغورِ الغنيَّةْ
ودمِ ابن شهوان الزّكيِّ
ومصرعِ النَّفسِ الأبيّةْ»
وقال الشَّاعر الدكتور إسماعيل السّعوديّ، عنه، في قصيدةٍ بعنوان «بقيَّة الرُّوح المسلوبة»:
«الشِّعرُ كلُّ الشِّعرِ للشُّهداءِ
فلترحلوا يا معشرَ الزُّعماءِ
ولتتركوا ثوب القصيدةِ ناصعاً
فالشِّعرُ فيكم وصمةُ استجداءِ
سأقودهُ لعيونِ (صايل) وحْدَهُ
حتَّى أعود ملطَّخاً بدمائي
فاغضضْ مِنْ موتكَ يا صايلْ
كي لا تُزعجَ أصحابَ الظِّلّ العالي
كي لا تُوقِظَ مَنْ تاهوا في هذا الرُّبع الخالي
حاول أن تَنصُر أحلام الفقراء
أن تُخرِجَ فرح العُمرِ بأيدي العُملاءِ
يا صايل.. يا خُبزَ البُسطاء المسروق
يا وجع الرُّوح المخنوق….»
ونعود إلى الشَّاعر الرّاحل حبيب الزّيوديّ، الَّذي كتب مراراً عن الشَّهيد صايل الشهوان، وخصَّه بقصيدةٍ جميلة بعنوان «صايل» نشرها في ديوانه الأخير «غيمٌ على العالوك»، الصَّادر في العام 2012، قبيل رحيله بقليل:
«جادت به شهقاتُ الغيمِ فانسكبا
على الفيافي رهاماً راهشاً عَذِبا
فتىً به سمرة تغوي البنات إذا
ما سرَّج المهرةَ الشَّهباءَ أو ركبا»
استُشهِدَ، في تلك الوقعة غير المتكافئة، نحو 72 من المشاركين في الانتفاضة، وجُرِح عددٌ كبيرٌ منهم، برصاص الإنجليز وأتباعهم. [المرجع السَّابق – ص 171، هامش رقم 1].
وقال حبيب الزيوديّ عن رفاق صايل في انتفاضة البلقاء:
«في فتيةٍ خيَّطوا الصحراءَ من دمهم
وعلَّموا أهلها التّحنان والطّربا».
كما قال عنهم أيضاً:
«نادتهم الأرض فامتدّوا بها شجراً
وأوجبوا لنداء الأرض ما وجبا
رنوا إلى النَّخل في الصَّحراء ما وجدوا
إلا الشُّموخ على أغصانها رطبا
مرّوا على البيد لمّا أجدبتْ مطراً
وسيَّلوا الخيلَ في قيعانها خبباً
قالوا لمن لامهم يذكي مواجعهم
وهزّ أغصانهم أصلاً ومنتَسبا
لقد سقينا كروم الدّار مِنْ دمنا
وما انتظرنا بها تيناً ولا عنبا».
ثمّ يقول حبيب متفاخراً بأولئك الفتية الصَّناديد:
«أولئك الصِّيد آبائي وما عرفتْ
قصائدي بعدهم أهلاً ولا نَسَبا».
ثمّ يعود إلى واقعة استشهاد صايل، فيقول:
«هوى على الرَّمل فالدّنيا لمن كتبت
دماؤه الحقَّ، ما الدّنيا لمن غَلَبَا».
ووصف الشَّهيد ناهض حتَّر الشّهيدَ صايل الشهوان قائلاً إنَّه مِنْ:
«سلالة الفرسان الَّتي تحدَّرت من الصَّخر الَّذي ينحته الحُبُّ، أعني الرِّجال الَّذين يولدون مِنْ زواج الصَّخر والحُبُّ. أعني صايل الشهوان الَّذي حين شتَّتَ قصفُ الطَّائرات الانكليزيَّة جموع الثَّائرين، في ضواحي عمان، العام ١٩٢٣، هاجمَ مصفَّحات الأعداء، وهو يهزج. إنَّها لحظة تراجيديَّة كاملة. فصايل، لو شَرَدَ، لن يهزج، بعدها، ولن يقرب النساء!». [ناهض حتَّر – «تايكي/ وضحا/ آمنة- النساء والحب في التراث الأردنيّ»] – المقتَبَس – آذار/مارس 2001]
ونختم باقتباسٍ مِنْ قصيدة طويلة للشَّاعر غثيان الغانم، مِنْ قبيلة العجارمة، وكان مِنْ معتقلي الانتفاضة. قال:
«إنْ طَالْ وإنْ غَاب بَعْدَنَا والغزوفي لَسْبِدْ يِظْهَرْ قِمَرنَا وحِنَّا نُجومي
مَحْنَا مِنْ قِصِيرين البَخَت والِدْروفي ولا حِنَّا مِنْ رِدِيين الحظ والعلومي
حَّنا صِبيان الصُّباح مْكَرْمين الِضْيوفي وحِنَّا رْمَاحَ القَنا والِسّيف والِسْهومي
لسْبِدْ تِظْهَر شمسنا وْتِلْمَع السيوفي وِنْرِدْ أمَارَه وْيِظْهَر قُمَرنَا والِنْجومي» – [الدكتور عبد الله العسَّاف – «ثورة البلقاء ومشروع الدَّولة الماجديَّة» – ص 290].
ومعنى الأبيات هو أنَّه مهما طال سجننا وإبعادنا، لا بدَّ أن يأتي الفَرج، ويتبدَّل الظَّلام، ونُصبِح نحن البارزين، («ونرد أماره»). وأمَّا «صبيان الصُّباح» فهي نخوة عشائر العجارمة للذّود عن الحمى. [المرجع السَّابق – ص 290]
سعود قبيلات – الأردن