هذه الامثلة قليلة مما تحفل به التوراة من دلائل تؤكد كلها أنهم لم يعرفوا التوحيد الحقيقي، وبأن النبي الكريم محمدا بن عبد الله حاول إعادتهم إلى الصراط المستقيم فلم يفلح، فنزلت الآية رقم 81 من سورة المائدة: «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا»… فقدم اليهود على المشركين بالعداوة للدين وللمؤمنين، والمؤمن الحقيقي لا يمكن أن يكون عدوا لغيره من المؤمنين. ويتماهى هذا القول مع ما جاء في إنجيل يوحنا الاصحاح الرابع ـ المقطع :22 «أنتم تسجدون لما لستم تعلمون. أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود.« اليهودية كانت منتشرة في الجزيرة العربية عندما أطلق محمد رسالته وأشرنا إلى أن بعض الباحثين يؤكدون أن اليهودية ولدت في الجزيرة العربية، ويبدو أن محمدا كان قد خبر أخلاقهم وهو بالطبع اطلع على أساطيرهم. ولما كان هدفه أولا دعوة الوثنيين إلى عبادة الاله الواحد، دعا أيضا اليهود للعودة إلى اتباع الدين القويم. نعم القرآن يحفل بالآيات التي تشير إلى موسى وأنبياء اليهود وإلى ما جاء في التوراة إلى حد بعيد. لكن محمدا أراد من ذلك أن يستجلب اليهود إلى الدين الحنيف فأشار إلى كتابهم وأنبيائهم. لكنه اعتبر أن ما جاء في التوراة لا يتعدى القصص التي تداولها الأولون وهي للاجتهاد وليس للاعتقاد كما يقول أسعد زيدان في كتابه: الناس والتاريخ.
وأفضل ما نختم به حديثنا حول هذا الموضوع هو ما قاله عالمان يهوديان الأول هو إسرائيل شاحاك وهو عالم بالكيمياء عمل أستاذا محاضرا في الجامعة العبرية في القدس المحتلة، حيث يقول في كتابه (الديانة اليهودية وتاريخ اليهود (ما يلي: « وإنني، لاعتبارات تتعلق بالمجال المتوافر، سأكتفي بالتعاطي بالتفصيل، مع أهم هذه الأوهام الباطلة الشائعة في وسط عامة الناس، ألا وهي: أن الديانة اليهودية، كانت وما زالت، ديانة تؤمن بإله واحد. والآن، وكما يعرف العديد من علماء التوراة، وكما تكشف بسهولة، القراءة الدقيقة للتوراة، فإن وجهة النظر هذه التي لا علاقة لها بالتاريخ، وجهة نظر خاطئة تماما. ففي العديد من أسفار التوراة، إن لم يكن في معظمها، هناك إقرار واضح، بصحة وجود، وبقوة آلهة آخرين، ولكن يهوه إله اليهود، وهو أقوى هذه الآلهة، يشعر بغيرة شديدة من منافسيه، ويمنع شعبه من عبادتهم. أما وجود الآلهة كافة، غير يهوه، فلا ينكره إلا بعض الأنبياء اللاحقين، في فترة متأخرة جدا في التوراة.»
والعالم الثاني هو سيغموند فرويد أب علم النفس الحديث الذي يقول في كتابه (موسى والتوحيد (ما يلي: «ليس من المؤكد أن ديانته (موسى) كانت ديانة توحيدية حقيقية.»
وهو يشير في مكان آخر إلى المؤثرات التوحيدية السورية المصدر التي فرضت نفسها على تطور الديانة المصرية إلى أن وصلت إلى التوحيد مع أخناتون، إلى أن يقول:« إذا كان موسى حقا وفعلا مصريا، وإذا كان قد أعطى اليهود ديانته ذاتها، فقد كانت ديانة أخناتون، ديانة آتون. » وقد أبدى رأيه بالله يهوه قائلا:« فلا مراء البتة في أن الله يهوه، الذي أهداه موسى المدياني شعبا جديدا، لم يكن كائنا أعلى، بل كان إلها محليا محدودا وشرسا، عنيفا ودمويا. ويقول أيضا:» وإنه لما يبعث على دهشة أكبر أيضا أن نرى هذا الله يختار لنفسه على حين بغتة شعبا من الشعوب ليجعل منه شعبه ويعلن أنه إلهه. هذه على ما أعتقد واقعة يتيمة في تاريخ الأديان الانسانية. «هي أمثلة قليلة مما حفلت به التوراة من أدلة كثيرة تؤكد ما ذهبنا إليه من أنهم وحدوا عبادتهم هم لله واحد، لكنهم لم يحاولوا أبدا إشراك غيرهم بهذه العبادة وهذا الله، فبقي إلها قبليا حاضرا لنصرة بني إسرائيل علً أعدائهم الوهميين، ان الشعوب القديمة رحبت بهم وبالرغم من ذلك اعتبروا أن كل الشعوب أعداء لهم. هل هذا يعني أنني أنكر على اليهود أن يكون لهم دينهم وإلههم؟ بالطبع لا، لأنني أؤمن بحرية الفكر والمعتقد، وهذا بالتالي يعني أنني أؤمن بالصراع الفكري لإغناء الحضارة الانسانية. ففي الوقت الذي لا أسمح فيه لنفسي أن أفرض رأيي على الأخرين بالقوة، لا أقبل من الآخرين أن يفرضوا علي معتقداتهم، وخاصة الماورائية، ليس ذلك فقط بل أن يحرموا أيا كان من إبداء الرأي فيها وكشف حقيقتها. وهذا بكل بساطة ما حاولت أن أقوله.
أما آن الأوان أن يقرأ المؤمنون، كتاب التوراة بعقل منفتح لا بفكر نمطي مغلق؟ إن الاستمرار بالتغاضي عن هذه الحقائق هو الذي يشجع إسرائيل على استمرارها باحتلال فلسطين وضربها عرض الحائط بكل القرارات الدولية. وقناعة المؤمنين المسيحيين والمحمديين بقداسة كتاب التوراة ما هي إلا انجرار دائم وراء الخدعة اليهودية التي أضفت القداسة على كم هائل من الأساطير والقصص التي يجب أن توضع في خانتها الحقيقية، أي يجب أن تعتبر أدبا شعبيا ليس نتاج بني إسرائيل، بل هو نقل فاضح عن الأولين الذين وضعوه في دائرته الحقيقية. إله اليهود هو أحد الآلهة الحربية القبلية التي عرفتها الشعوب القديمة واستقوت بها على أعدائها، ومع اهتدائها إلى التوحيد الخاص تخلت عنها. فهل من يقنع اليهود بالتخلي عن هذا الله القبلي وعبادة الواحد الأحد؟ وإن لم يقتنعوا، وبالطبع لن يقتنعوا، فهل على كل المؤمنين مجاراتهم إشراكهم أم التمسك بمضامين دياناتهم الحنيفة؟ فالله كما يقول ابن رشد:» لا يمكن أن يعطينا عقولا ويعطينا شرائع مخالفة لها.
وجدي المصري ـ الحلقة الرابعة والأخيرة

