تبلّغوا وبلّغوا أن الإرهابيين المعتقلين في السجون اللبنانية سيطلق سراحهم أسوة بمن سبقهم من اللصوص والجواسيس. هذه القناعة لا تستند إلى معلومات، بل إلى دراسة ومتابعة للممارسات التي سبق أن نفذها النظام اللبناني. لذلك، ما على أسر شهداء الجيش والمقاومة سوى الصبر والحسرة على أبنائها الذين استشهدوا لأن حكومة الإذعان تنكّرت لتضحياتهم، فهي وجدت أصلاً لتحقق رغبات من أوعز للإرهابيين بقتل أبنائهم.
وأعتقد أن عائلات الشهداء شاهدت بأم العين كيف دشّنت الحكومة خطواتها «الإصلاحية» بإطلاق سراح عميل ولص. العميل والمجرم محيي الدين حسنة الذي تسبّب في قتل وإعاقة آلاف اللبنانيين، أُطلق سراحه ولن يكون آخر العملاء الذين سيطلق سراحهم، بل سيلحق به العشرات من أمثاله.
والسؤال الآن هو: مَن الذي يطالب وله مصلحة في إطلاق سراح العملاء؟
لا مجال للشك في أن مَن جنّدهم وشغّلهم وسلّحهم هو مَن أمر بإطلاق سراحهم. وإلا فلتفصح السلطة «السيادية والإصلاحية» عن السبب الضروري والملحّ لإطلاق سراح القتلة الذين أدانتهم المحاكم اللبنانية؟
حتماً لا جواب. إنهم ببساطة ينفّذون بنود روزنامة معدّة سلفاً، سبق لهم أن تعهّدوا بتنفيذها بنداً بنداً.
لا يقتصر الأمر على عملاء العدو، بل اللصوص أيضاً، ففي خضم الأحداث الدموية اليومية التي يشهدها لبنان، صدر قرار عن السلطة «الإصلاحية» بإطلاق سراح عرّاب اللصوص رياض سلامة. هذا الإجراء يعني بصراحة أن السلطة بصقت في وجوه أصحاب الودائع الذين نهبت أموالهم بإشراف كل من رياض سلامة والمصارف، وقالت لهم اذهبوا إلى الجحيم، وتركتهم وأسرهم أمام خيارين: إمّا العيش بذلّ وفقر حتى الممات، أو الهجرة من دون عودة إلى الأرض التي ولدوا على ترابها.
وباختصار، هم يعتبرون أن مسألة نهب الناس أصبحت من الماضي، وعلى الطريقة اللبنانية، ما مضى قد مضى، ولا غالب ولا مغلوب، ولا أحد يستطيع محاكمة أو محاسبة أحد. والنتيجة أن إطلاق سراح سلامة ما هو إلا مجرد إمعان في إهانة ضحاياه وضحايا شركائه الذين يشكّلون العمود الفقري لهذا النظام الفاسد.
بعد إطلاق سراح اللصوص والعملاء سيأتي دور التكفيريين. فالذي موّل هؤلاء القتلة وحرّضهم على ذبح اللبنانيين والسوريين يريد إطلاق سراحهم. الأميركي والمموّل العربي يريدون «جنودهم» أحراراً، وإرادتهم ستنصاع لها حكومة لبنان من دون أي تردّد! يُضاف إلى ذلك أن حكّام «القاعدة» في دمشق يشترطون على الحكّام في بيروت إطلاق سراح جنودهم أيضاً.
إذاً، لا حرج في أن ينفذوا. جميعهم كانوا ولا يزالون يقاتلون عدواً واحداً، أليس كذلك؟ والعجب أن يتأخروا في منح الحرّية لمن قاتل لتحقيق هدف هو من أهدافهم أيضاً. الوفاء لهؤلاء الإرهابيين يقضي بأن يكونوا خارج السجون. وسواء اعترفوا بذلك أو لم يعترفوا بأنهم إخوتهم في «الجهاد»، فمن دون «تضحياتهم» ما كان في إمكانهم الوصول إلى مناصبهم لا في دمشق ولا في بيروت.
ولكي لا يبقى هذا الكلام مجرد اتهام، أعود بذاكرة اللبنانيين إلى ما حدث للضابط في الجيش اللبناني ميلاد النداف الذي خطف في كانون الأول عام 2000 من قبل عصابات التكفير، وكان قائد الجيش حينذاك، ميشال سليمان، آخر مَن يعلم، وقد تجاهل عمداً في اليوم الأول عملية الخطف، لذلك أصدر الرئيس لحود أوامره إلى الوحدات العسكرية في منطقة سير الضنية بتطويق المنطقة وتحرير العسكريين المختطفين. دارت معركة وتمّت تصفية النداف واعتقل من تبقّى على قيد الحياة من المجموعة الإرهابية.
لكن الذي حدث في صباح اليوم التالي هو الأساس. طلب السفير الأميركي دايفيد ساترفيلد موعداً عاجلاً مع الرئيس لحود الذي استقبله، وكان طلبه الوحيد والعاجل والملح إطلاق سراح أحد القتلة لأنه يحمل الجنسية الأميركية. وكعادة الرئيس لحود، فقد أفهم السفير أنّ المعتقل قاتل وسوف يحاكم وفق القوانين اللبنانية.
مرة ثانية ضغط الأميركيون على الرئيس ميشال عون وطلبوا منه عدم تحرّك الجيش لتطهير الجرود الشرقية من الإرهابيين الذين قتلوا عناصر عسكرية وفجّروا السيارات المفخخة. أولئك الإرهابيون الذين كانوا موضع تقدير وترحيب من مرتزقة الأميركيين في لبنان الذين زاروهم في عرسال. لكن الضغوط الأميركية لم تنفع إذ رماها الرئيس عون كما الرئيس لحود في سلة المهملات، وشاركت المقاومة اللبنانية الجيش في القتال وهُزم الإرهابيون.
هذه بعض حوادث الماضي القريب. واليوم لا يكتفي الأميركيون بالطلب والتمنّي بل يأمرون. لذلك لا عجب في أن يطلق سراح الإرهابيين أمثال أحمد الأسير وجماعته، كما أطلق سراح الجواسيس واللصوص. الجميع «ناضلوا» في خدمة المشروع الأميركي – الصهيوني. وعلى هذا الأساس لا بد من مكافأتهم وإطلاق سراحهم. وليس هذا التصرّف بجديد على النظام الطائفي اللبناني، إذ سبق أن أطلق سراح سمير جعجع مقابل إطلاق سراح الإرهابيين الذين قتلوا عناصر الجيش في الضنية ومجدل عنجر.
وفي المحصلة، نقول إنّ النظام اللبناني لا يعترف بالقوانين ولا بشهداء جيشه وشعبه، فعندما تأتيه الأوامر يتجاهل كل شيء. ولكي لا يعتبر البعض هذا الكلام تحاملاً، فقادم الأيام سيثبت أن السلطة سوف تنفّذ التوجيهات بكل طيبة خاطر كما نفّذت التوجيهات بالتوجّه إلى دمشق وتهنئة الجولاني في منصبه الجديد من دون أي حرج. وبسهولة تم تجاهل جرائم جنود الجولاني من أمثال «جبهة النصرة» وأخواتها من الإرهابيين الذين ذبحوا عناصر الجيش وفجروا السيارات في القرى البقاعية وبيروت.
كل ذلك وضعوه في خانة «عفا الله عما مضى»!
من هنا نستطيع تأكيد أن إطلاق سراح رياض سلامة كان إرضاء لمصارف النهب وشركائه في السلطة من جهة، وكذلك إزالة حالة الإحباط التي انتابت بشارة الراعي من جهة أخرى. ورغم فضيحة مغادرة سلامة سجن منتجع بحنس حيث كان يستقبل الزوار ويخرج لزيارة أصدقائه بشكل عادي، مرّ الخبر بشكل طبيعي مع بعض الاعتراضات التي لن تقدّم ولن تؤخّر لأن ما كتب قد كتب.
وعلى طريقة ستة وستة مكرّر اللبنانية، وبما أنه يتوجّب على النظام أيضاً تنفيذ أوامر مَن موّل وسلّح الإرهابيين، فإن مراعاة مشاعر الراعي توجب مراعاة مشاعر عبد اللطيف دريان أيضاً. وما على اللبنانيين إلا أن يتقبّلوا الأمر السلطاني بإطلاق سراح الإرهابيين الذين قتلوا في عبرا وغيرها 18 عنصراً من الجيش إضافة إلى 150 جريحاً. وهكذا يعمّ الوئام ويتعزّز الوفاق، ويطير لبنان بجناحيه، وتثبت الصيغة اللبنانية أنها فريدة في نوعها حقّاً خاصّة في نهب المواطنين وقتلهم.
مَن سيصدر قرارات إخلاء سبيل القتلة سيجد لنفسه ألف تبرير، وهو في الأصل لن يكترث للاعتراضات من أي جهة أتت. المهم أنّ الأمر واضحٌ بالنسبة إلى من يأمر وينهى، وملخّصه: نريد جنودنا أحراراً، نفّذوا على الفور.
* نشرت في جريدة الاخبار

