غطرسة نتانياهو وأهداف «إسرائيل الكبرى» قراءة في مشروع القوة والهيمنة

لم تعد غطرسة بنيامين نتانياهو في الشرق الأوسط مجرّد صفة شخصية أو ميلاً خطابياً إلى التحدي، بل تحوّلت إلى منهج سياسيّ يعبّر عن مشروع متكامل: مشروع يستند إلى القوة العسكرية، والدعم الدولي، والانقسام الإقليمي، ويميل إلى فرض وقائع على الأرض بقوة الأمر الواقع ـ إعلان نتانياهو، في أكثر من مناسبة، أنّه يسعى إلى تكريس ما يشبه «إسرائيل الكبرى» ليس شعاراً عابراً؛ بل انعكاس لاستراتيجية ترى أنّ زمن التسويات انتهى، وأنّ المستقبل مرهون بقدرة إسرائيل على التوسع والهيمنة، لا بالاعتراف بالحقوق ولا بالتوازنات.

ملامح الغطرسة: من السلوك إلى المنهج

الغطرسة هنا ليست مجرد خطاب متعجرف أو استعراض سياسي في الإعلام، بل هي بنية كاملة تتغذى من خمسة مصادر أساسية:

 1 ـ الدعم الأميركي المطلق: على مدى عقود، نجحت إسرائيل في الإفلات من المساءلة الدولية بفضل الفيتو الأميركي في مجلس الأمن، والدعم المالي والعسكري والاستخباري غير المحدود ـ هذا الغطاء جعل نتانياهو يتصرّف وكأنّه فوق القانون الدولي، وكأنّ الدم الفلسطيني والعربي بلا ثمن.

2 ـ التفكك العربي: الحروب بالوكالة في العراق وسوريا واليمن وليبيا، والانشغال الاقتصادي والأمني لدول أخرى، جعلت من المنطقة ساحة مفتوحة لمغامرات إسرائيلية بلا رادع فعلي.

3 ـ الانقسام الفلسطيني: الانفصال بين السلطة في الضفة وحماس في غزة وفّر لإسرائيل ذريعة مثالية لإدارة الصراع بدل حله ـ فكل طرف فلسطيني يُعزل عن الآخر، بينما يستفرد نتانياهو بالقرار النهائي على الأرض.

4 ـ صعود اليمين الديني القومي داخل إسرائيل: التحول الاجتماعي نحو التطرف، حيث يزداد وزن التيارات الدينية والقومية في السياسة، يوفّر قاعدة جماهيرية تُبارك سياسات الاستيطان والعدوان.

5 ـ البقاء السياسي الشخصي: نتانياهو يواجه قضايا فساد ومحاكمات تهدد مستقبله ـ بقاءه في الحكم يساوي، عملياً، بقاؤه في مأمن من القضاء ـ لهذا يستثمر في التصعيد والعدوان لإطالة أمد سلطته.

الأهداف الاستراتيجية لمشروع «إسرائيل الكبرى»

من خلال هذه المصادر، يمكن قراءة الغطرسة كمشروع استراتيجي لا كمزاج سياسي ـ أهم أهدافه:

1 ـ ترسيخ السيطرة على الأرض: عبر الاستيطان والضمّ المتدرج في الضفة الغربية، وإلغاء أي إمكانية حقيقية لدولة فلسطينية قابلة للحياة.

2 ـ ضبط الديموغرافيا: الحفاظ على أغلبية يهودية بأي ثمن، عبر سياسات المواطَنة إضعافالخصومالإقليميين: والهجرة، وتغيير الواقع القانوني والدستوري بما يضمن «الطابع اليهودي للدولة«.

3 ـ بناء عمق أمني: عبر إنشاء أحزمة عازلة أو ضربات استباقية في الدول المجاورة، بما يحول دون تراكم تهديدات عسكرية في محيط إسرائيل.

4 ـ تعطيل شبكات إيران: استهداف حزب الله، ضرب القدرات الصاروخية في غزة واليمن، والتشويش على أي إمكانية لقيام محور مقاومة متماسك.

5 ـ توظيف التطبيع: الاستفادة من موجة التطبيع العربي لكسر العزلة، وتحصيل مكاسب اقتصادية وأمنية، وتقديم صورة «طبيعية» لإسرائيل في المنطقة رغم استمرار الاحتلال.

6 ـ البقاء في الحكم: عبر تضخيم الشعور بالخطر الوجودي وربطه بشخصه، يقدّم نتانياهو نفسه كـ«الضامن» الوحيد لأمن إسرائيل.

ساحات الاعتداء: لبنان وسوريا واليمن وإيران وقطر

الغطرسة الإسرائيلية لا تقتصر على فلسطين، بل تتجلى في جغرافيا أوسع:

لبنان: الاعتداءات الجوية والاختراقات الأمنية المتكررة تستهدف بنى عسكرية أو لوجستية لحزب الله ـ الهدف منع توازن ردع جديد، لكن النتيجة تكريس حلقة عنف مفتوحة.

سوريا: منذ سنوات، تتعرض أراضيها لغارات إسرائيلية تستهدف شحنات أسلحة أو مواقع مرتبطة بإيران ـ الهدف هو كسر حلقة الإمداد بين طهران وبيروت، وهذا يرسخ سوريا كساحة صراع دائمة.

اليمن: عبر تحالفات إقليمية أو عمليات غير مباشرة، تعمل إسرائيل على تعطيل أي تهديد صاروخي أو بحري مرتبط بحلفاء إيران ـ النتيجة تعميق الأزمة اليمنية وتحويلها إلى ملف إقليمي دائم.

إيران: المواجهة معها متعددة المستويات: ضربات سيبرانية، اغتيالات علماء، استهداف مواقع نووية أو صاروخية ـ الهدف هو إبطاء مشروعها الاستراتيجي، لكن النتيجة تصعيد دائم مع قوة إقليمية كبيرة.

قطر: حتى التوترات والاعتداءات الأخيرة التي طالتها تكشف منطق الغطرسة ذاته: إسرائيل لا ترى فرقاً بين خصوم تقليديين وشركاء إقليميين، بل تختبر حدود الجميع، في رسالة أن «يدها طويلة» حيثما تشاء.

النتائج والتداعيات

غطرسة نتانياهو تحقق مكاسب قصيرة الأجل لكنها تزرع بذور خسائر استراتيجية طويلة المدى:

1- تآكل صورة إسرائيل عالمياً: تزايد الانتقادات في الجامعات والنقابات والمنظمات الحقوقية، وتوسع حركة المقاطعة BDS.

2-تصاعد رفض الشعوب العربية: رغم التطبيع الرسمي، الشعوب ترفض إسرائيل وتعتبرها عدواً ـ كل عدوان جديد يعيد فتح الجرح.

3-انقسام داخلي خطير: إسرائيل تشهد صراعاً بين معسكر «الدولة الديمقراطية» ومعسكر «الدولة الدينية القومية» ـ الاحتجاجات الأخيرة حول القضاء مجرد بداية لصدامات أعمق.

4- ـ إطالة أمد الصراع: سياسة القوة العارية تسدّ كل الطرق أمام التسوية، وتجعل المقاومة خياراً وحيداً أمام الفلسطينيين.

5-احتمال انفجار إقليمي: تكرار الاعتداءات على دول متعددة قد يقود إلى تحالفات جديدة مضادة، أو مواجهة إقليمية أوسع لا يمكن ضبطها بسهولة.

خاتمة: الغطرسة كفخّ استراتيجي

إن غطرسة نتانياهو ليست دليل قوة مطلقة، بل انعكاس لتوازن مختلّ: قوة مدعومة من الخارج في مواجهة شعوب ممزقة ـ لكنه يخطئ حين يظن أن هذه المعادلة ستدوم ـ فمشروع «إسرائيل الكبرى» الذي يحلم به، والمبني على التوسع والقوة، يحمل في داخله بذور فشله: عزلة دولية متزايدة، مقاومة متجددة، وصراعات داخلية إسرائيلية متنامية.

الغطرسة قد تمنح نتانياهو لحظات انتصار إعلامية أو سياسية، لكنها في المحصلة تُطيل عمر الصراع وتُقصر عمر الاستقرار ـ والشرق الأوسط الذي يصرّ على تغييره بالقوة قد يتحول إلى ساحة ارتدادٍ عليه، حين تنقلب وقائع الدم والاحتلال والتوسع إلى حقائق مقاومة وعزلة وتصدّع داخلي.