التطبيع « في السياق العربي ـ الإسرائيلي

إن مفهوم «التطبيع» في السياق العربي ـ الإسرائيلي لا يقتصر على إقامة علاقات دبلوماسية علنية، بل يمتدّ إلى إعادة صياغة أولويات الأمن والاقتصاد والإعلام والتعليم بما يجعل العلاقة مع إسرائيل «طبيعية» ومفيدة، بينما تُدفع القضية الفلسطينية إلى الهامش بوصفها عبئاً تاريخياً ـ

مشروع التطبيع العربي، «صفقة القرن» (الأولى) وما تلاها مما يُشار إليه أحياناً بــ«صفقة القرن الثانية»، ودور دول خليجية في إعادة هندسة أنظمة الحكم غير المؤيدة للتطبيع، وآليات تمكين قوى موالية لنهج التسوية في لبنان وسوريا والأردن وحتى العراق ـ

1) السياق العام: من أمن النفط إلى أمن إسرائيل

منذ نهاية الحرب الباردة، انتقل مركز الثقل الاستراتيجي في الإقليم من «أمن الطاقة» إلى «دمج إسرائيل في المنظومة الإقليمية» ـ ترافقت هذه النقلة مع:

خصخصة الأمن الإقليمي: تحوّل التهديد الإيراني، وتمدّد الفواعل غير الدولتية، إلى مُسوّغ لتكتلات أمنية جديدة ـ

تبدّل النظام العربي الرسمي: هشاشة الدول بعد 2011 أضعفت قدرة القرار العربي الموحّد، وفتحت الباب لسياسات ثنائية/ثلاثية ترعاها واشنطن ـ

تسليع التطبيع: ربط التطبيع بصفقات تسليح، وتكنولوجيا، واستثمارات، واتفاقات دفاعية ـ

2) » صفقة القرن» الأولى 2017 ـ 2020: المعيار والنتائج

 ـ الملامح الأساسية

الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل (2017) ونقل السفارة الأمريكية (2018) ـ

خطة البيت الأبيض 2020: إقرار واقع السيطرة الإسرائيلية على أجزاء واسعة من الضفة الغربية، مقابل «كيان فلسطيني» منزوع السيادة عملياً، مشروط بأمن إسرائيل واعتراف فلسطيني موسّع ـ

المكوّن الاقتصادي: ورشة المنامة (2019) قدّمت «تنمية مقابل تنازلات سياسية»، مع تمويل خليجي ـ دولي افتراضي ـ

 ـ النتائج العملية

اتفاقات أبراهام (2020): تطبيع الإمارات والبحرين ثم السودان والمغرب، مقابل حزم منافع (استثمار، تكنولوجيا، اعترافات أمريكية بمطالب سيادية/ترابية لبعض الدول، وصفقات تسليح ـ

تحويل مركز الثقل: من «حل نهائي» إلى «إدارة الصراع» داخل منظومة تعاون أمني ـ اقتصادي ناشئ ـ

3 ـ «الصفقة الثانية»: إعادة تغليف التطبيع بعد حروب جديدة

بعد التصعيدات الكبرى (خصوصاً 2023)، برزت مقاربة تُصوَّر أحياناً كـ«صفقة ثانية»:

 ـ مقايضة كبرى: تطبيع سعودي ـ إسرائيلي مشروط بمزايا استراتيجية (ضمانات أمنية أمريكية، تعاون نووي مدني، وترتيبات لفلسطين تُحسّن شروط المعيشة/الحوكمة وربما مساراً تجاه الدولة على الورق ـ

 ـ هندسة غزة والضفة: ربط إعادة الإعمار والتمويل بترتيبات أمنية صارمة، وإعادة تموضع للسلطة/الأدوار ـ

تعويم «حل الدولتين لفظياً» مع إبقاء سقف التطبيق عملياً عند «الدولة المحدودة السيادة/المراحل الطويلة» ـ

هذه المقاربة تواصل منطق «التطبيع أولاً»، وتضع الفلسطينيين بين تحسينات ملموسة مشروطة، وبين تنازلات سياسية مؤجّلة تتحوّل إلى وقائع دائمة ـ

4) دور دول خليجية في تغيير بيئات الحكم غير المؤيدة للتطبيع

لا يمكن اختزال سياسات دول الخليج في مسار واحد؛ هناك تباينات، لكن يمكن رصد أدوات تأثير متشابهة استخدمت في العقد الأخير لتليين بيئات الحكم العربية:

أدوات النفوذ:

 ـ الرافعة المالية: مساعدات، ودائع، قروض ميسّرة، استثمارات صناديق سيادية، مشروطة بسياسات داخلية وخارجية «متوافقة» ـ

 ـ النفاذ الإعلامي الضخم: إعادة تأطير الوعي العام عبر شبكات إعلامية ومنصات رقمية واسعة الانتشار تروّج «السلام الدافئ»، وتُطبع الخطاب حول إسرائيل والتكنولوجيا والازدهار ـ

 ـ الأمن والتكنولوجيا: تبادل خبرات، تقنيات مراقبة سيبرانية، توقيع مذكرات تفاهم أمنية… تؤدي إلى اصطفافات أعمق ـ

 ـ الهندسة النخبوية: احتضان نخب سياسية ـ اقتصادية وثقافية شابة، شبكات علاقات، مؤتمرات، ومشاريع ريادة وأبراج استشارية تُعيد صياغة «لغة المصالح» ـ

 ـ الشرطية الدبلوماسية: فتح/غلق بوابات العمالة، السياحة، التحويلات، والاستثمارات بوصفها أدوات ضغط/تحفيز ـ

ماذا يحدث في دول العالم العربي؟

مصر ما بعد 2013:

 تم تقديم دعم مالي كثيف ساعد على تثبيت نظام جديد أقرب إلى أجندة «الاستقرار أولاً» والتنسيق الأمني، ما سهّل إبقاء اتفاقيات السلام وتوسيع التعاون ـ

السودان (مرحلة انتقالية): تم ربط رفع اسم السودان من قوائم أمريكية وتدفّق دعم اقتصادي باتصالات تطبيعية ـ

المغرب:

تم فرض التطبيع مقابل اعتراف أمريكي بسيادة الرباط على الصحراء الغربية وديناميات استثمار/تعاون ثلاثي ـ

هذه الأمثلة لا تعني «تغيير نظام بالقوة» بقدر ما تُظهر قبولاً أو رفضاً مدروساً لدعم بُنى حكم تتقاطع مع مسار التطبيع ـ

سورية الطبيعية:

 ـ كيف تُرسَّخ قوى موالية للتطبيع في سورية الطبيعية (لبنان وسوريا والأردن والعراق)؟ تختلف البنى والسياقات، لكن أنماط العمل متقاربة: اقتصاد/إعلام/نخب/أمن ـ

أ) لبنان

يتم تشكيل رافعة اقتصادية ـ مالية من خلال الضغط عبر التحويلات، المقاطعة الدبلوماسية/السياحية، واشتراطات المساعدات يُستخدم للتأثير على التوازن السياسي الداخلي وعلى خطاب «الحياد/السلام» ـ وتشكيل الإعلام والسرديات من خلال تكثيف خطاب «الإنقاذ عبر الانفتاح الخليجي ـ الغربي» مقابل توصيف المقاومة كعائق استثماري ـ

وأيضا إنشاء شبكات النخب من خلال برامج احتضان لروّاد الأعمال، تمويل مجتمع مدني وتنمية محلية بشروط حوكمة تتجنّب الصدام مع خط التطبيع، ما يصنع نخباً مؤثرة أقل حساسية تجاه المقاطعة التاريخية ـ

أما اللمسة الأخيرة فكانت تكليف نواف سلام برئاسة الحكومة، وهو المعروف بولائه العلني للولايات المتحدة والسعودية فقد كان رئيساً لمحكمة العدل الدولية في لاهاي، وهناك تجنّب الاعتراف بمبدأ «الإبادة» في العدوان الإسرائيلي على غزة، ما عُدّ رسالة سياسية واضحة عن موقعه وانحيازه ـ

ان تكليف سلام ليس تفصيلاً داخلياً، بل هو جزء من مخطط أوسع لإعادة تموضع لبنان عبرتقليص نفوذ قوى المقاومة (حزب الله وحلفاؤه) وربط القرار اللبناني بالمحور السعودي ـ الأميركي وجعل لبنان أقل عداءً لإسرائيل وأكثر اندماجاً في «السلام الإقليمي» ـ وبالتالي التسويق للأمن غير المباشر: تشجيع ترتيبات «تهدئة حدود» و« قواعد اشتباك» تقي الاستثمار، فتولّد مصالح موضوعية مضادة للتصعيد، والتوجه نحو فرض منطقة عازلة في الجنوب اللبناني ـ

ب) سوريا

إن وصول الجولاني إلى دمشق لم يكن مجرّد انتصار ميداني، بل محطة مفصلية في مشروع إخضاع سوريا لمسار التطبيع، وظّفته أنقرة كورقة استراتيجية، والدوحة موّلته، ووفر له الغرب والخليج الغطاء السياسي ـ فكانت النتيجة أن دمشق التي كانت «عاصمة الصمود» تحولت إلى «عاصمة محايدة»، بل منصاعة لإيقاع الإقليم الجديد، وهو ما يمهّد لفرض «صفقة القرن الثانية» كأمر واقع ـ ـ

لهذا نرى بشكل واضح أن اعادة الإعمار مشروطة: ويتم ربط تمويلها بإعادة توجيه السياسة الإقليمية، ولو تدريجياً، وبقبول وقائع «إدارة الصراع» بدل «تحرير الأرض» ـ

وهكذا يتم فصل المسارات عبر إسقاط مسار الجولان وجعل الجنوب السوري منطقة منزوعة السلاح، والتركيز على «الاستقرار وحدود آمنة» كأولوية فوق سياسية ـ

ج) الأردن

أسست معاهدة وادي عربة (1994) تعاوناً أمنياً ـ اقتصادياً طويل الأمد، فكانت معادلة أمن معيشة مقابل استقرار: حيث يعتمد الأردن على المعونات والاستثمارات؛ فتُستخدم كأداة لتقوية تيارات بيروقراطية وأمنية ترى في «التنسيق» ضرورة وجودية ـ

كما يتم ربط الأردن بمشاريع طاقة/مياه/نقل إقليمية تجعل كلفة الانفكاك عن منظومة التطبيع مرتفعة ـ

د) العراق

حتى الآن هنالك ممانعة اجتماعية ـ سياسية قوية للتطبيع، لكنه يتم بناء قنوات اقتصادية ـ طاقة ـ نقل مع الخليج كي تُقدَّم كمسارات «تنموية خالصة» ـ

أما المقاربات فهي تُطرح ناعمة: استثمارات، ربط كهربائي، وممرات تجارية تُعيد تموضع نخب تكنوقراط حول خطاب «المصلحة الوطنية» المعزول عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي ـ فيتم تطويع الخطاب بحيث يتم إبراز «السيادة الاقتصادية» عبر الانفتاح الخليجي ـ الغربي، بما يقلّص مركزية فلسطين في تحديد الاصطفاف ـ

 ه) الكويت (2025):

هي جزء من المنظومة الخليجية المرتبطة بواشنطن ـ

وبالرغم من محاولتها إظهار حياد نسبي في أزمات المنطقة، إلا أنها عملياً منخرطة في سياسة مجلس التعاون الخليجي تجاه التطبيع (بضغط سعودي ـ أميركي)، مما يُحضرها لتكون «الممول الاقتصادي» في أي ترتيبات تخص العراق وسورية الطبيعية، خاصة إذا جرى تقليص الدور الإيراني ـ

أما بالنسبة لأهميتها في مشروع التطبيع، فإنها إذا خضعت دمشق وبيروت، فإن الكويت تصبح خزّاناً مالياً يُستخدم لإعادة هندسة الاقتصاد في سورية الطبيعية على أسس «منفتحة على إسرائيل» ـ

و) قبرص:

ان موقع قبرص البحري (مقابل إيران والعراق) يجعلها نقطة ارتكاز للتحكم بممرات الطاقة المرتبطة بالشرق الأوسط نحو المتوسط، فتُستخدم كـ «حاملة طائرات ثابتة» للغرب في مواجهة سورية ولبنان، لذلك فان السيطرة السياسية/العسكرية عليها تسمح بتطويق الساحل السوري والضغط على بيروت ودمشق ـ

وفي إطار «صفقة القرن الثانية»، تتحول قبرص إلى نقطة ارتكاز لإخضاع الشام بحرياً، مثلما تحولت إدلب ـ دمشق إلى نقطة إخضاع برياً ـ

5 ـ البنية العميقة للمشروع: تحويل «القضية» إلى «تكلفة فرصة« ـ

الفكرة الجوهرية التي يشتغل عليها مشروع التطبيع هي محاسبة باردة:

ما هي تكلفة الفرصة لاستمرار المقاطعة؟

فرص تكنولوجيا/طاقة/موانئ/سياحة/أسواق رأسمال تُقابِلها كلفة سياسية ـ أمنية للصراع ـ

كلما تعمّق التشبيك الاقتصادي، ازداد تبديد رأس المال الرمزي لفلسطين في الخيال العام، خصوصاً لدى أجيال شابة تُخاطَب بلغة الوظائف والازدهار ـ

6) وسائل التصفية الناعمة للرفض الشعبي

1 ـ إغراق المعلومات : flood the zone ـ إعادة تعريف الخبر «العادي» بحيث يصبح خبر التعاون مع إسرائيل غير صادم ـ

2 ـ التطبيع الثقافي: منصات ترفيهية وفنية ورياضية مشتركة، وتعاون أكاديمي وتقني ـ

3 ـ شيطنة المقاطعة: ربط المقاطعين بالتخلّف ومعاداة الحداثة/الاستثمار ـ

4 ـ الأمن القانوني: قوانين مكافحة الكراهية والتطرّف تُستخدم أحياناً لتجريم أشكال من المقاطعة أو حملات المقاطعة ـ

7) نقاط القوّة والضعف في مشروع التطبيع

نقاط القوة:

دعم أمريكي ـ غربي مؤسسي، وتوافق مصالح أمنية لدى عواصم عربية مركزية ـ

حوافز اقتصادية مغرية، وبنى تحتية مالية ـ إعلامية ضخمة ـ

تعب جيوسياسي لدى مجتمعات عانت عقداً من الحروب والفوضى ـ

نقاط الضعف:

 ـ هشاشة شرعية «السلام» دون عدالة للفلسطينيين؛ الانفجارات الدورية تُعيد تسييس الشارع ـ

 ـ تناقض بين «السلام الاقتصادي» ومنطق الاستيطان والضمّ؛ يولّد أزمة سردية ـ

 ـ اعتماد مفرط على الاستقرار الأمريكي/الدولي وتوازنات داخلية قابلة للانقلاب ـ

8) كيف واجهت/تواجه قوى الرفض هذا المسار؟

المقاطعة وسلاسل الإمداد: حملات BDS ونسخ محلية تضغط على شركات كبرى ـ

جبهات القانون الدولي: توثيق جرائم الحرب، ملاحقات/آليات أممية وقضائية ـ

سرديات بديلة: إعلام مستقلّ ومنصات رقمية تعيد الاعتبار للعدالة/الحقوق ـ

تسييس الاقتصاد: ربط الاستثمار والمسؤولية الاجتماعية بقيم حقوق الإنسان ـ

9) خلاصات وتقديرات

1 ـ ليس التطبيع اتفاقات فقط؛ إنه انتقال بنيوي في قواعد اللعبة الإقليمية، يبدّل أولويات الأمن والاقتصاد والثقافة ـ

2 ـ «الصفقة الأولى» أرست الإطار: القدس والخرائط والأمن مقابل اقتصاد ـ «الصفقة الثانية» ـ بصيغها المتداولة ـ تسعى لتوسيع الدمج مع تغليفٍ حقوقي ـ إغاثي لإدارة غزة والضفة ـ

3 ـ الرافعات الخليجية لعبت وتلعب دوراً حاسماً** في توجيه السلوك الرسمي العربي عبر المال والإعلام والنفوذ الدبلوماسي والهندسة النخبوية، مع تفاوت بين الدول والسياسات ـ

4 ـ في لبنان وسوريا والأردن والعراق، تُبنى ساحات تأثير مركبة: اقتصاد ـ إعلام ـ أمن تصنع توازنات تميل تدريجياً نحو قبول إدارة الصراع بدلاً من حسمه لصالح الحقوق التاريخية ـ

5 ـ يبقى مأزق الشرعية نقطة الضعف الأعمق: من دون مسار عدالة حقيقي للفلسطينيين، كل تسوية قابلة للارتداد عند كل انفجار كبير ـ