تتداخل مفاهيم الجغرافيا والتاريخ والدين والسياسة في الشرق الأوسط بشكل معقد، مما يجعل فهم الصراعات يبدو شائكًا. لكن، بالنظر إلى الجذور التاريخية لكل مفهوم، يتضح أنّ هناك تسلسلاً منطقياً يفكك هذا التعقيد.
فمن منطلق أنّ الجغرافيا تسبق التاريخ، فإنّ التنافس على الحدود الطبيعية للمنطقة هو صراع تاريخي، وليس صدفة عابرة.
المنطق التاريخي مقابل السرد الديني
على عكس السرديات التقليدية التي تركز على وعد ديني منح اليهود «أرض الميعاد» في فلسطين، فإنّ الحقائق التاريخية والجغرافية تقدم سردًا مختلفًا تمامًا. إذ قبل ظهور الدين اليهودي في شكله الموحد، كانت المنطقة مركزًا لحضارات عريقة مثل الفينيقيين والآشوريين وغيرهم…، التي أقامت في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين. وهذه الحضارات أقدم بكثير من مقولة «أرض الميعاد»، مما يجعل «سوريا الطبيعية» كمنطقة جغرافية وحضارية سابقة على الفكر الديني اليهودي.
إذًا، الأمر يتجاوز التفسيرات التي تبرر السيطرة على الأرض بناءً على النصوص الدينية.
إذ لا يمكن تبرير السيطرة على الأراضي بالدين، لأن الجغرافية والتاريخ يسبقان وجود الأديان الإبراهيمية، وهذا الادعاء أيضًا يرفضه القانون الدولي الحديث.
من «الحق الإلهي» إلى «الضرورة السياسية»
أمّا مؤيدو السردية التقليدية، أنّ إسرائيل هي تحقيق لنبوءة توراتية، فإن التحليل المنطقي يربط نشوء هذا الكيان بسلسلة من الأحداث السياسية التي خدمت مصالح القوى العظمى.
- وعد بلفور (1917): لم يكن وعدًا إلهيًا، بل كان قرارًا سياسيًا من بريطانيا، القوة الإمبريالية الكبرى، التي سعت للحفاظ على نفوذها في المنطقة. فأعطت بهذا الوعد الشؤوم أرضًا لا يملكها، لمَن لا يسكنها، متجاهلاً السكان الأصليين.
- خطة التقسيم الأممية (1947): كانت نتيجة لضغط سياسي دولي بعد الهولوكوست. تخلّصت بموجبها أوروبا من «مشكلة» اليهود ومؤامراتهم الخبيثة، ببمنحهم وطنًا على حساب شعب آخر.
«إسرائيل»: ليست وطناً قومياً، بل قاعدة متقدمة
وخلافًا للسردية التي تصور «إسرائيل» أنها وطن قومي آمن للشعب اليهودي، تثبت الأحداث التاريخية أنّ هذا الكيان أُنشئ ليكون قاعدة متقدمة للقوى الغربية. لقد كان في البداية أداة للإمبريالية البريطانية، ثم أصبح اليوم «ورقة رابحة استراتيجية» للهيمنة الأمريكية في المنطقة. وهذا يربط مشروع إقامة كيان صهيوني آمن بـ «الرأسمالية المتوحشة» التي تسعى للسيطرة على الموارد والنفوذ، مما يجعل الصراع ليس دينيًا أو تاريخيًا بقدر ما هو صراع على المصالح.
الخلاصة: إعادة تعريف المصطلحات
أخيرًا، لا بدّ من تحديد واضح للمصطلحات القانونيّة والقيَميّة كي تصبح الرّؤيا أوضح للذين لا يرَون رغم ضوء الشّمس.
وكأنه لا بدّ من إشعال مصباح «ديوجين» لتحديد مفاهيم كثيرة كـ (العدالة، الحرّيّة، الدّمقراطيّة….) وكيف يتم استخدامها كسلاح يقوّض المعطى الذي وُضعت له.
إنّ ما يحصل في المنطقة من تغيّرات ديموغرافية وجغرافيّة، يثبت أنّ السرديات التقليدية المتعلّقة بالنبوءة والوعود الربانية ما هي إلا شمّاعة تستخدمها الدول الكبرى لإغراء يهود العالم السّذّج بالقدوم إلى أرض فلسطين، لتبرر اغتصابها للدول والسيطرة على ثرواتها الطبيعيّة.
إذًا إنّ«دولة إسرائيل» ليست نتاجًا طبيعيًا للمنطقة، بل هي كيان غريب عنها، وُجد لتحقيق مصالح الاستكبار العالميّ وليكون قاعدة متقدّمة للسيطرة. والتاريخ يعلّمنا أنّ الحقوق لا تموت طالما هناك من يطالب بها. فكما أن الجسم لا يستقيم إلا بالقضاء على المرض الذي دخل إليه، فإن المنطقة لن تستقر إلا باقتلاع ظفر الوحش، الذي تربّى على حقد دينيّ دفين، وتغذّى بلبن العنصرية ليحقق مطامع التنين وسيطرته على العالم.
أوغاريت

