الاستراتيجية الاستعمارية في سورية الطبيعية

دراسة تاريخية تحليلية من أواخر العهد العثماني إلى الحاضر

المقدمة

يشكل الهلال الخصيب (العراق، سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين) وحدة جغرافية وتاريخية ترسمها عوامل الموقع الاستراتيجي وغنى الموارد الزراعية، والنفطية، والتنوع السكاني والحضاري. أدركت القوى الاستعمارية الغربية منذ القرن التاسع عشر أن الهيمنة على هذه المنطقة تعني السيطرة على مفاصل التجارة العالمية وأمن الطاقة وتوازن القوى الدولي.

أولاً: إرهاصات الاستراتيجية في أواخر العهد العثماني

 ـ المسألة الشرقية وصراع القوى الأوروبية:

 مع تراجع الدولة العثمانية برز الصراع بين بريطانيا وفرنسا وروسيا على تقسيم إرثها، خاصة بعد حرب القرم وظهور «المسألة الشرقية». كانت القوى تعتبر السيطرة على الهلال الخصيب بوابة آسيا ومفتاح طرق الهند التجارية والصناعية.

 ـ اللورد كرومر وتقارير الاستراتيجية:

 شدد كرومر أن السيطرة على سوريا والعراق «ضمانة للسيطرة على قلب آسيا»، وهذا ما جعل بريطانيا تركز جهودها للاحتفاظ بجناحي المنطقة (مصر من جهة، والعراق بفعل النفط المكتشف حديثاً من جهة أخرى

 ـ المصالح النفطية:

بعد اكتشاف النفط في عبادان (1908) أصبح ترسيم الحدود بهدف ضمان حقول الموصل وكركوك ضرورة استراتيجية لبريطانيا ومثار تنافس مع فرنسا التي ركزت أكثر على الساحل السوري واللبناني.

ثانياً: سايكس ـ بيكو وبلفور ـ هندسة الجغرافيا السياسية

 ـ اتفاقية سايكس ـ بيكو (1916):

 ـ قسمت الأراضي الشامية والعراقية إلى نفوذ فرنسي وبريطاني بشكل يمنع أي مشروع سياسي عربي وحدوي.

 ـ تم رسم خطوط حدود اصطناعية تخالف التكوينات الطبيعية والعرقية بهدف تفتيت المنطقة[1][2].

 ـ وعد بلفور (1917):

 ـ أقره ديفيد لويد جورج كخطوة لإقامة «قاعدة صديقة في فلسطين تضمن الطريق إلى الهند وتحول دون وحدة العرب»، مستفيداً من ضعف الهوية الوطنية الجامعة [2].

 ـ تم ربط فلسطين مباشرة بمشروع الوطن القومي اليهودي لخدمة المصالح الغربية في حماية طرق التجارة والاستعمار.

 ـ مؤتمر سان ريمو (1920):

 ـ شدد الحلفاء على فصل فلسطين عن محيطها العربي وتثبيت الانتداب البريطاني، وادراج «الوطن القومي اليهودي» كجزء من خطة التحكم الإقليمي.

 ـ خطط التقسيم المعدّلة (برنارد لويس ويينون:)

 ـ أعيد النظر في تقسيم سايكس ـ بيكو مراراً، حيث دعا برنارد لويس لاحقاً إلى إعادة تفتيت المنطقة إلى أكثر من ثلاثين دويلة على أساس عرقي وطائفي وأثني، ليكون الشرق الأوسط دائماً عاجزاً عن التصدي للهيمنة الغربية وقوة إسرائيل.

ثالثاً: سياسة «فرّق تسد» وتفكيك النسيج الاجتماعي

 ـ في سوريا ولبنان:

 ـ أنشأت فرنسا كيانات منفصلة مثل دولة العلويين ودولة جبل الدروز ودولة لبنان الكبير بغية خلق جيوب طائفية وإثنية ضعيفة تعطي فرنسا القدرة على المناورة والسيطرة الداخلية طويلة الأمد، كما ورد في مذكرات الجنرال غورو.

 ـ في العراق:

 ـ دعم بريطانيا للملكية الهاشمية وتوزيع السلطات عبر قواعد محاصصة طائفية (شيعة، سنة، أكراد) لتقييد ظهور أي زعامة جامعة، وضمان تبعية النظام للهيمنة البريطانية

 ـ في الأردن:

 ـ تأسيس إمارة شرق الأردن ضمن سياسة الحماية، بهدف خلق منطقة عازلة أمنية أمام أي تهديد لفلسطين الانتدابية.

 ـ في فلسطين:

 ـ سمحت بريطانيا بهجرة يهودية منظمة وقمعت الثورات الفلسطينية (1936 ـ 1939) ، بهدف إضعاف البنية الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني وخلق بيئة ملائمة للمشروع الصهيوني.

رابعاً: تصفية القيادات الوطنية العابرة للطوائف

 ـ سياسات القوى الغربية ركزت على إعدام أو إبعاد أي قائد وطني وحّد الطوائف والمجتمعات في مواجهة الاستعمار:

 ـ سلطان باشا الأطرش: زعيم الثورة السورية الكبرى، تعرض لمحاولة حصار وملاحقة فرنسية انتهت بعزله وإضعاف حركته.

 ـ إبراهيم هنانو وصالح العلي: قيادة مقاومة شمال وجنوب سوريا، وُصفوا بأنهم «تهديد للوحدة والاستقرار الاستعماري»، وتمت محاربتهم بشراسة ودعم تحركات داخلية للحد من تأثيرهم.

 ـ أنطون سعاده: وُصف مشروعه القومي بأنه «خطر على التوازنات المصطنعة»، وأعدم بتواطؤ خارجي مع النخب الطائفية المحلية.

 ـ عز الدين القسام وأدهم خنجر: شكلوا أيقونات للمقاومة الوطنية العابرة للطوائف، وكان اغتيالهم هدفاً للحفاظ على سياسة فرق تسد.

خامساً: زرع الكيان الصهيوني كقاعدة استراتيجية

 ـ تم إنشاء إسرائيل ليس فقط كمشروع ديني يهودي بل كموطئ قدم استراتيجي يضمن ديمومة الهيمنة الغربية.

 ـ أقر دافيد بن غوريون أن قوة إسرائيل «لا تكمن فقط في الجيش بل في تفتيت محيطها إلى وحدات طائفية متناحرة» كي تبقى الدولة الأقوى غير المهددة.

 ـ أقرت لاحقاً قيادات عسكرية وسياسية إسرائيلية مثل موشيه دايان بتنسيق دعم الحركات الانفصالية في سوريا والعراق ولبنان، بهدف تدمير أي جبهة إقليمية موحدة.

سادساً: الاستعمار الحديث ـ من الاحتلال المباشر إلى الهيمنة غير المباشرة

 ـ الانقلابات:

 دور مباشر لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA) في سلسلة الانقلابات بسوريا والعراق، لعرقلة تشكل أي نظام ذو جذور وطنية مستقلة.

 ـ حروب بالوكالة:

تمويل وتسليح أطراف داخلية، وإطلاق الصراع الأهلي والطائفي كوسيلة لإضعاف البنية الوطنية وإنهاك الدولة.

 ـ العقوبات الاقتصادية:

وسيلة لإضعاف الأنظمة المناوئة وفرض شروط إصلاح سياسي واقتصادي موالي للغرب.

 ـ الإعلام والمنظمات الدولية:

إعادة تشكيل الخطاب لتوجيه الرأي العام الملتبس وتسويغ التدخلات بحجج مثل «حقوق الإنسان»، و«مكافحة الإرهاب»، وممارسة الدبلوماسية الضاغطة في المحافل الدولية.

سابعاً: الاستمرارية حتى الحاضر

 رغم تغير الأساليب والأدوات، بقي الهدف الأساسي ثابتاً:

 ـ منع قيام أي مشروع سياسي أو اقتصادي موحّد في الهلال الخصيب ـ سورية الطبيعية ـ يحول دون الهيمنة.

 ـ ضمان أمن إسرائيل كقاعدة استراتيجية أولى في المنطقة.

 ـ التحكم بموارد الطاقة والممرات التجارية العالمية، وتأمين عزل المنطقة عن العمق الآسيوي والأوروبي.

ان الاستراتيجية الغربية في الهلال الخصيب هي مشروع طويل الأمد قائم على تفتيت المنطقة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، لربط أمنها واقتصادها بالغرب وضمان تبعية دائمة. وكلما تجددت أزمات المنطقة، جرى تلاؤم تكتيكات السيطرة والتفتيت بما يلائم الأهداف الكبرى، من سايكس ـ بيكو إلى برنارد لويس، وصولاً للانقلابات والحروب والمؤامرات الحديثة.

ولكن رغم كثافة المؤامرة، لم يكن الطريق سهلاً على المستعمر.

الثورة السورية الكبرى (1925)، ثورة العراق (1920)، المقاومة الفلسطينية، وصمود لبنان والمقاومة منذ 1982 الى 2000 و2006، كلها محطات تقول إنّ الشعب مهما تكسّر يبقى يملك شرارة الرفض.

اليوم أيضاً، ورغم ما شهدته سورية والعراق ولبنان وفلسطين من حروب وانقسامات، يبقى هناك وعي شعبي يتنامى بأنّ ما يحدث ليس مجرد أزمات داخلية، بل هو جزء من خطة استعمارية متواصلة عمرها قرن وأكثر. كل تقسيم، كل فتنة، كل حرب داخلية، ليست سوى امتداد لتلك الخريطة التي رُسمت بالقلم في مكاتب لندن وباريس قبل أكثر من مئة عام.

لكن التاريخ علّمنا أنّ هذه الأرض، التي كانت دائماً ملتقى الشعوب وملجأ المضطهدين، تملك قدرة على النهوض من تحت الركام. وما يحتاجه المشرق اليوم ليس أكثر من وعي بأنّ وحدته الطبيعية هي الخطر الأكبر على الاستعمار… وبالتالي هي الأمل الأكبر لشعوبه.