شغلت العولمة دنيا العالم باعتبارها ظاهرة جديدة ارتبطت بما أحدثته الثورة الصناعية من تطور هائل، وذلك بعد تخطي الغرب، الأوربي ـ الأميركي الحديث أزمات العصور الوسطى وامتلاكه شروط النهضة وأسباب القوّة والتقدم جعله يبني حضارة قوّية تقوم على الحرية والعلم والتكنولوجيا، وكان على الغرب الحديث أن يؤدلج هذا التحوّل الصناعي الذي يحتكره، ويقدمه في صورة عولمة تغزو العالم بالحداثة والتحديث وبإيديولوجية جديدة هي الليبرالية الغربية.
ولعل أحد أشكال الهيمنة الغربية الجديدة أنها عكست بجلاء اتجاه النزعة المركزية الأوربية الحديثة، الهدف منها الالتفاف على العالم ومن حوله كافة شعوبه وجهاته، لتسليط النفوذ الغربي عليه ونهب خيراته وثرواته، وإحكام الطوق عليه واستغلاله طبيعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وبشريًا، وفرض إرادة القويّ وهيمنته، والعنصر الأبيض أفضل من غيره وهو أحقّ بالمدنية والتحضر، وغيره كُتب عليه التوحش والتخلف وخدمة الأبيض الذي يستعبده إلى أقصى درجة وبدون مشفقة.
والعولمة في اتجاهاتها الغربية تعني تكريس هوية المركز وثقافته ونظامه الاقتصادي والسياسي والعسكري وغيره، وانصهار كل الهويات والخصوصيات والدول الوطنية والقومية وكل الأشياء المحلية فيما هو مركزي، فالعولمة تحوّل من الخاص إلى العام ومن المحلي إلى العالمي ومن الخصوصي إلى الكوني ومن الوطني والقومي إلى الإنساني الشمولي العام في الفكر والسلوك والوجدان، فالعولمة تعني لا حدود ثقافية أو سياسية أو جغرافية في العالم، ولا كيانات أو تكتلات سياسية أو اقتصادية أو ثقافية إلا في حدود العولمة وتحت سيطرة المركز وبقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
ربّما كان عالِم الاجتماع الفرنسي آلان تورين من بين أبرز المفكّرين العالَميّين الذين دعوا مبكّرًا إلى ضرورة التفكير في «باراديغم» (أو ما يصطلح عليه بالنموذج، هو مفتاح من المفاتيح التي تُمكننا من فهم مجال السوسيولوجيا) جديد لفهْم العالَم ومُجتمعاته، نتيجة التحوّلات الهائلة والسريعة التي طرأت عليه في العقود الأربعة الماضية. وبانطلاقه من مقولة «نهاية الاجتماعي»، قَصَدَ تورين نهاية التفكير الاجتماعيّ، أي نهاية نمط التصوّر الاجتماعيّ للحياة المُشترَكة في الغرب، الذي كان جزءاً رئيساً في التحليل الاجتماعيّ السائد. وبحسب تورين «كان المُجتمع، كما تُصوِّره لنا السوسيولوجيا الكلاسيكيّة، أشبه بقصرٍ من حَجَر؛ أمّا اليوم، فقد بات أشبه بمَشاهِد طبيعيّة مُتحرِّكة».
صحيح أنّنا، كمُجتمعات عربيّة، لسنا، ولَم نكُن قبلاً، ولا في أيّ لحظة تاريخيّة، مَفصولين عمّا يجري من تحوّلات في العالَم، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ طبيعةَ هذا التقارُب أو الاتّصال، إذا ما جاز التعبير، وحجْمَه وعُمقَه، هي التي تشي بتحوّلٍ جديد فيما يخصّ علاقتنا بالعالَم، وربّما بنمطٍ لم يشهد التاريخ الحديث مثله من قبل، ولاسيّما مع الدَّور الأساس الذي تشغله على هذا الصعيد ثورة المعلومات والاتّصالات والتواصل.
القيم المعولمة، إذًا، جاءت كنتاج سيرورة من القطائع في الفكر والثورات السياسية والاقتصادية. ونتاج مسار ومخاض في ولادة الغرب الصناعي والسياسي بقيم مادية ومعنوية شكلت الخيال الاجتماعي والبنية الذهنية بأفكار وثقافة عميقة ساهمت في تشكيل معالم الذات. واستمرت كممارسة وتربية في مجال التعليم والحياة الاجتماعية والسياسية. غير منفصلة عن «القيم البروتستانتية» في تحليل السوسيولوجي ماكس فيبر كسبب أساسي في تطور الرأسمالية الغربية. ومتصلة بالفعل والمعنى الذي يصبغه الإنسان في الممارسة العملية وفي السلوك اليومي. ومحددة في التقدم الذي يشهده الغرب.
ولادة القيم العقلانية هي وليدة العصور السابقة في التدوين والتأسيس كعصر النهضة. ووليدة العلم الحديث والثورة العلمية في القرن السابع عشر كتتويج للمسار المتصل في بنية العلم وشرارته المستمرة. ووليدة الفكر السياسي والاجتماعي وعصر الأنوار. وما يتعلق بالإنتاج الفلسفي العقلاني في فلسفة ديكارت وهيجل. وتوهج هذا الفكر في قوة العقل الاداتي لإرغام الطبيعة وتطويعها والسيطرة عليها بقوة المنهج العلمي وتأملات العلماء في الظواهر الطبيعية. ومسار الفكر في التاريخ وقدرة العقل كقوة لا متناهية في تكريس القيم العقلانية وتعيين الفكرة المجردة في عالم الموضوعات والأشياء بفضل الوحدة وقدرة العقل في تذويب التناقضات بين الذاتي والموضوعي. وبالتالي أصبح التطابق بين العقل والواقع ملموسًا في تحقيق الأهداف والغايات.
سياق الفكر التاريخي المعاصر مع فوكو ياما ينهل كثيرا من سياق الفكر الفلسفي الحديث. والسوسيولوجيا الكلاسيكية خصوصا مفاهيم من حقل عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر عن الفعل الاجتماعي وعلاقة القيم البروتستانتية وروح تطور الرأسمالية. وفكرة النجاح والمبادرة الحرة وتحفيز الإنسان في العمل والإنتاج. يعني دينامية الفكر الغربي في نزعته المحافظة على النظام القائم.
هكذا يجد «فوكوياما» في «نهاية التاريخ» فكرة قائمة في الفكر الهيجيلي وحتمية المسار التاريخي الذي ينتهي بميلاد مجتمع الحرية والعقلانية. في الدولة التي يعتبرها هيجل أرقى الأشكال التنظيمية التي تعينت في الواقع. وتحققت في واقعها النماذج العقلانية في التدبير والتسيير.
خطاب النهايات في الفكر المعاصر ينطلق من الفكرة القائلة بتلاشي الإنسان ومحدوديته. ونهاية صورة معينة والقول بفكر بديل. ونهاية التاريخ لا تعني النهاية الحتمية للرأسمالية حسب «فوكوياما». بل بوادر ميلاد فكرة أخرى جديدة تعيد العالم إلى طبيعته في نهاية الحروب والصراعات العرقية أي النهاية لكل النماذج الإيديولوجية من الفكر القومي والحركات الدينية والفكر الماركسي. ولا بديل عن الفكر الليبرالي في اقتصاد السوق. وفي قوة الليبرالية كفلسفة في التدبير وتوسيع هامش الحرية السياسية والمشاركة في الحياة الاجتماعية. في قوة المجتمع المدني ودينامية الحياة السياسية التي تعرف نموا في ظل التنافس النزيه على تداول السلطة.
فكأنّنا بتلك المُقاربات وأمثالها من الرؤى الفكريّة، على اختلاف أجناسها، أمام طريقٍ موصلة إلى نموذجٍ فكريّ إنسانيّ أوّلًا وآخرًا، غايته الخروج من استبداد المَنطق النفعيّ وجبروته المُهدِّد للإنسان. ولعلّ هذه الحقيقة التي لا رَيْب فيها، هي التي جَعلَت إدغار موران يدحض مقولة «فوكو ياما» في أنّ القدرات البناءة للتطوّر البشري قد استُنفِدَت مع الديمقراطية التمثيليّة والاقتصاد اللّيبرالي، إذ في رأيه، وبحسب ما كَتبَ هو نفسه في جريدة «لوموند» الفرنسيّة (10/ 01/ 2010)، «يجدر بنا التفكير عكس ذلك، أي التفكير بأنّ التاريخ هو الذي استُنفِدَ وليس القدرات البناءة للإنسانيّة»؛ أوَ ليست هذه القدرات والطّاقات هي القمينة بإعادة تصويب التاريخ على قاعدة «أنسنه» تحوّلاته أو باتّجاه هذه الـ«أنسنه»؟
خطاب النهايات كما رسمته أقلام غربية من البنيوية إلى الفكر الفلسفي المعاصر. تعني بالأساس نهاية النزعة الإنسانية ونهاية صورة الإنسان في الفكر الميتافيزيقي. الفاعل والمريد. إنسان بمحددات ثابتة. تعلن الفلسفة المعاصرة عن نهايته واختفائه وإحلال فكر بديل. فكر ما بعد الحداثة. وفكر الاختلاف والنسبية.
فالعولمة تخدم الكبار في العالم ولا مكان في ساحتها للضعفاء، فهي تكيل بمكيالين الأول خاص بالمركز والثاني خاص بالأطراف، وتقودها إيديولوجية تستمد منظورها من منظور النزعة المركزية الأوربية ومن عقائد الحركة الصهيونية وصنوُها الماسونية في العالم ومن مطامح أصحاب المال والأعمال في العالم، لأن العالم في ظل العولمة صارت توجهه الشركات الاقتصادية المتعددة الجنسية والعابرة للقارات والمؤسسات المالية العالمية التي تسيّرها دول المركز، وهي صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمنظمة العالمية للتجارة، الأمر الذي عمّق أزمة العولمة المادية والأخلاقية، فهي أزمة خطاب وممارسة أولا، وأزمة مادة وروح ثانيا، غاب في ظل العولمة التوازن المطلوب في الإنسان بين جميع حاجاته ومطالبه الروحية والمادية، كما انتفى التكافؤ الضروري في المجتمع الدولي بين الأغنياء والفقراء لضمان للأمن والاستقرار في العالم، نجد واحد من خمسة «خمس» من سكان العالم يسيطرون على أكثر من ثمانين بالمائة من الناتج العالمي، وتقوم القوى المهيمنة باستغلال الطاقات البشرية والثروات الطبيعية للشعوب الضعيفة وبردع وتأديب أيّة جهة تخرج عن العولمة.
يجابه الغرب «المعولم» حضارات العالم بقيم مضادة كحضارة بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين ووادي النيل وبلاد فارس والكونفوشيوسية، وغيرها من الحضارات.
هذا الهوس والخوف ولد تساؤلات عن الهوية والخصوصية الثقافية. في عولمة لا إنسانية ولا أخلاقية في رأي الفيلسوف جان بودريار حيث أنتجت السياسة الغربية من ذاتها العنف والقوة. والرغبة في الهيمنة. وساهمت في صعود القوى الراديكالية في العالم. وآلية المقاومة من قبل شعوب أخرى رافضة للعولمة الأحادية والقسرية.
ولا غرابة في أن يدعو أستاذ الفلسفة والعلوم السياسيّة الكندي ألان دونو، في كِتابه La Médiocratie (2015)، إلى التحرّر من «التفاهة» ومن الفقر المعنويّ المُستشري بين الناس، وإلى عدم الاستسلام لنِظام التّافِهين، بل إلى الانقياد للمفاهيم الكبرى، وإعادة المعاني لكلماتٍ تعبِّر عن مفاهيم مثل المُواطَنة، والشعب، والجدال، والحقوق الجمعيّة، والقطاع العامّ، والخير العامّ…؛ ولا غرابة في أن يدعو عالِم الاجتماع والإتنولوجيا الفرنسي آلان دو فولبيان في كِتابه «مديح التحوّل: في الطريق نحو إنسانيّة جديدة» Eloge de la métamorphose : En marches vers une nouvelle humanité (2016)، إلى إنسانيّة جديدة، وإن كانت نظرته أكثر تفاؤلاً من سواه، انطلاقاً من إيمانه بأنّ الإنسان والبشر عموماً، بتنوّعهم، وباختلاف مَواقعهم السياسيّة والثقافيّة والتعليميّة والمهنيّة والعمريّة والجندريّة، هُم الذين يغذّون التحوّل ويَبنون المُجتمع الجديد.

