المواطنة الحقيقية: شروطها، حدودها، وكيف نفرّق بين الانتماء والعمالة؟

المواطنة ليست مجرد جواز سفر أو بطاقة هوية؛ إنها عقد اجتماعي غير مكتوب بين الفرد ووطنه. المواطنة الحقيقية هي حالة انتماء عميقة ومسؤولية متبادلة تتجاوز الحقوق والواجبات المادية. إنها تُبنى على ركائز أساسية تجعل من الفرد جزءًا لا يتجزأ من النسيج الوطني، وتجعل الوطن بيته الذي يحميه ويصونه.

فما هي شروط هذه المواطنة الحقيقية؟ وكيف يمكننا أن نحدد العدو في عالم تتداخل فيه المصالح وتتشابك الرؤى؟

وهل الارتهان للخارج عمالة أم مجرد وجهة نظر؟

شروط المواطنة الحقيقية

المواطنة ليست هبة تُمنح، بل هي التزام يُكتسب. أول شرط للمواطنة الحقيقية هو الولاء للوطن، وهذا الولاء لا يعني الانصياع الأعمى للسلطة، بل هو حب صادق للتراب، وحماية للمصالح العليا للبلاد، وإيمان بالهوية الوطنية المشتركة. يليه المسؤولية الاجتماعية، حيث يدرك المواطن أن حريته تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين، وأن عليه واجب المساهمة في بناء المجتمع وتطويره، سواء من خلال العمل المنتج، أو المشاركة المدنية، أو الدفاع عن الحقوق والحريات.

الشرط الثالث هو الوعي النقدي، وهو القدرة على التفكير المستقل وتقييم الأوضاع بإنصاف، دون الوقوع في فخ الشعارات الرنانة أو الانحيازات الأيديولوجية الضيقة. المواطن الحقيقي لا يتبع القطيع، بل يحلل ويستفسر ويسعى لفهم الحقائق. وأخيرًا، تأتي المشاركة الفاعلة في الحياة العامة، سواء بالانتخاب، أو التعبير عن الرأي، أو الانخراط في المبادرات المجتمعية. المواطنة ليست استهلاكًا للحقوق، بل هي ممارسة للواجبات ومساهمة مستمرة.

تحديد العدو: حقيقة أم وهم؟

في عالم معقد ومتشابك، لم يعد العدو هو ذلك الجيش الذي يغزو الحدود علنًا. العدو قد يكون فكرة، أو أجندة خفية، أو نظامًا اقتصاديًا يستنزف ثروات الوطن. لذلك، يتطلب تحديد العدو اليوم وعيًا عميقًا ودراسة دقيقة. العدو الحقيقي هو كل من يهدد وجود الوطن ويهدم أركانه الأساسية، سواء كان ذلك بـ:

  • زعزعة الاستقرار الأمني: من خلال نشر الإرهاب أو الفوضى.
  • استنزاف الثروات الوطنية: عبر اتفاقيات مجحفة أو فساد مالي ممنهج.
  • تفكيك النسيج الاجتماعي: بالتحريض على الطائفية أو الانقسام.
  • طمس الهوية الوطنية: من خلال الترويج لأفكار غريبة أو أجندات خارجية تتعارض مع قيم المجتمع.

العدو ليس دائمًا كيانًا خارجيًا؛ قد يكون داخليًا، يرتدي قناع الوطنية بينما يعمل على تخريبها من الداخل. لهذا، فإن التمييز بين النقد البناء والتحريض الهدام، وبين المصالح المشروعة والأجندات المشبوهة، أصبح أمرًا بالغ الأهمية.

الارتهان للخارج: عمالة أم وجهة نظر؟

الارتهان للخارج ليس مجرد وجهة نظر، بل هو خيانة للمواطنة ومسؤوليتها. الارتهان هو وضع المصالح الأجنبية فوق المصالح الوطنية، وهو بيع للقرار السياسي أو الاقتصادي أو العسكري مقابل مكاسب شخصية أو حزبية. هذا يختلف تمامًا عن التعاون الدولي أو إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية مع الدول الأخرى.

الفرق الأساسي يكمن في الهدف والغاية:

  • التعاون: يهدف إلى تحقيق مصالح مشتركة مع الحفاظ على السيادة الوطنية الكاملة.
  • الارتهان (العمالة): يهدف إلى خدمة أجندة دولة أجنبية على حساب سيادة الوطن ومصلحة أبنائه.

القول بأن «العمالة وجهة نظر» هو تبرير خطير يطمس الحدود الفاصلة بين الانتماء والولاء من جهة، والخيانة والتفريط من جهة أخرى. العمالة هي عمالة، مهما كانت التبريرات التي تُقدم لها. إنها نقيض المواطنة الحقيقية، وهدم لكل ما تسعى إليه من بناء وحماية واستقلال.

والمطالبة اليوم، وفي الظروف الراهنة السياسية والاقتصادية والأمنية التي تمرّ بها المنطقة، بنوع ورقة القوّة الوحيدة من يد بلد ما، أقصد المقاومة الشعبية لكلّ أوجه الارتهان، هو العمالة بحدّ ذاتها.

أما وجهة النظر التي ترى أن المقاومة المسلّحة، أن تؤدي إلى عواقب سلبية على الوطن، وعليه، فإن الدعوة إلى حلّها لا تعني بالضرورة الخيانة أو العمالة، بل قد تكون وجهة نظر تهدف إلى حماية البلاد من الصراعات الإقليمية والدولية. فليقل لنا كيف يدافع أيّ بلد عن مصالحه وثرواته في ظلّ الهيمنة الرأسمالية المتوحشة وأذنابها؟

في الختام، المواطنة الحقيقية ليست مجرد حالة قانونية، بل هي حالة وجودية. إنها انتماء يستند إلى الوعي، ومسؤولية تُبنى على التضحية، وولاء لا يُباع. في عالم تتداخل فيه الأجندات وتُشوش فيه المفاهيم، يظل التمسك بشروط هذه المواطنة هو الدرع الأقوى لحماية الأوطان من أخطار الداخل والخارج على حد سواء.

                                              كوثر فرزان