غزة
منذ عام 1948، شكّل قطاع غزة معضلة مركزية في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي ـ فقد تحوّل الشريط الساحلي الضيق، المكتظ باللاجئين الفلسطينيين، إلى رمز للقضية الفلسطينية ومكان يختزن تحدياً ديمغرافيًا ـ سياسيًا لإسرائيل ـ منذ ذلك التاريخ، لم تنقطع الطروحات الإسرائيلية حول «إعادة توطين» الغزيين، سواء داخل سيناء المصرية أو في دول أخرى.
الجذور التاريخية للفكرة
في أعقاب النكبة، وبعد أن خضعت غزة للإدارة المصرية، بدأت دوائر إسرائيلية تتحدث عن «حل» مشكلة اللاجئين عبر إعادة توطينهم في سيناء ـ خلال العدوان الثلاثي عام 1956، ومع الاحتلال الإسرائيلي القصير لغزة وسيناء، طُرحت مقترحات في مراكز القرار الإسرائيلي لنقل سكان غزة إلى الصحراء، باعتبارها منطقة أوسع وقابلة «لاستيعاب الفائض السكاني».
بعد حرب حزيران/يونيو 1967 واحتلال إسرائيل لغزة وسيناء معاً، ظهرت وثائق رسمية لوزارة الدفاع الإسرائيلية تقترح إقامة مشاريع استيطان بديلة في شمال سيناء، بحيث تُنقل إليها أعداد كبيرة من الفلسطينيين من القطاع ـ لم يُنفذ المشروع، لكنه ظل خياراً مطروحاً في النقاشات الاستراتيجية لعقود لاحقة
أوسلو وإعادة إنتاج العزلة
مع اتفاق أوسلو (1993 ـ 1995) بدا أن غزة ستصبح نواة الكيان الفلسطيني، لكن إسرائيل أبقت سيطرتها على الحدود والمعابر والبحر، مانعةً أي إمكانية لقيام منفذ اقتصادي مستقل ـ بل يمكن القول إن الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من غزة عام 2005 لم يكن إلا خطوة نحو «إعادة إنتاج العزلة»، حيث تحولت غزة إلى كيان مكتظ ومحاصر، محكوم عليه بالاعتماد على المعابر الإسرائيلية.
الحصار وتغذية فكرة التهجير
منذ 2007، ومع سيطرة حركة حماس على القطاع، فرضت إسرائيل حصاراً شاملاً، جعل الحياة في غزة أقرب إلى «حالة طوارئ دائمة» ـ في هذه المرحلة تحديداً، ظهرت تسريبات عن مقترحات لإنشاء «منطقة اقتصادية ـ إنسانية» في شمال سيناء، تستوعب جزءاً من سكان غزة أو بعض مرافقها (محطة كهرباء، مطار بديل، مناطق صناعية).
تقرير صادر عن «مركز بيغن ـ السادات للدراسات الاستراتيجية» (BESA) عام 2017 مثلاً، تحدث بصراحة عن ضرورة التفكير بخيارات «إعادة توطين» الفلسطينيين خارج غزة، وطرح سيناء كخيار عملي.
صفقة القرن وتدويل الفكرة
في إطار «صفقة القرن» التي أعلنتها إدارة ترامب عام 2019، جرى طرح مشاريع استثمارية ضخمة في شمال سيناء، كحلقة مكملة لتنمية غزة ـ ورغم رفض مصر العلني، فقد عُدّ ذلك محاولة أميركية ـ إسرائيلية لإحياء فكرة قديمة: تخفيف الضغط الديمغرافي عن غزة عبر سيناء.
الممر الهند ـ الخليج ـ إسرائيل ـ أوروبا (IMEC)
مع إعلان مشروع IMEC عام 2023، ازدادت الحاجة الإسرائيلية إلى تأمين ممراتها التجارية عبر ميناء حيفا ـ هذا المشروع الدولي استبعد غزة بالكامل، على الرغم من موقعها الجغرافي الطبيعي على المتوسط ـ الاستبعاد لم يكن عرضياً؛ بل يعكس قراراً استراتيجياً بإلغاء أي احتمال لظهور ميناء فلسطيني مستقل يمكن أن ينافس حيفا.
إذ إن دخول غزة في هذا المشروع كان سيمنح الفلسطينيين دوراً اقتصادياً محورياً، ويُضعف الهيمنة الإسرائيلية على الممر التجاري الجديد.
الاحتلال الكامل والتهجير كـ «حل نهائي»
مع الحرب الأخيرة على غزة (2023 ـ 2024)، بدأت أصوات في حكومة نتنياهو وبعض مراكز الأبحاث الإسرائيلية (مثل مؤسسة هرتسيليا ومركز بيغن ـ السادات) تتحدث علناً عن «فرصة تاريخية لإعادة رسم مستقبل غزة»، بما في ذلك طرح «ترحيل سكانها إلى سيناء» كخيار استراتيجي دائم ـ بعض المقالات الإسرائيلية ذهبت أبعد، إذ تحدثت عن أن «غزة غير قابلة للحياة»، وأن الحل الوحيد هو «إفراغها من سكانها» وتحويلها إلى شريط ساحلي تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة.
وحسب عدد من المصادر، قد يمر جزء من الممر عبر شمال قطاع غزة، ما أثار مخاوف من أن هناك دوافع اقتصادية وراء عمليات التهجير القسري للسكان أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير، بهدف إفراغ مناطق مخصصة للمشروع أو لتسهيل إمراره عملياً
– الحرب على غزة تهدد تنفيذ المشروع أو تعطل مساراته، لأن القطاع جزء حساس من خطوط العبور أو اللوجستيات، وبقاؤه غير مستقر سيؤثر على قدرة إسرائيل على تقديم نفسها كمحور تجاري ولوجستي.
إن الإصرار الإسرائيلي على إخضاع غزة بالكامل، وتجويعها أو دفع سكانها نحو الهجرة القسرية، لا يمكن فصله عن المشروع الجيوسياسي الأوسع الذي تسعى إسرائيل لترسيخه: السيطرة على ممرات التجارة الإقليمية والدولية ـ فكما كان استبعاد غزة من الممر التجاري IMEC قراراً استراتيجياً لصالح ميناء حيفا، فإن احتلال غزة وتهجير أهلها نحو سيناء يُمثّل الوجه الآخر لنفس المعادلة: إلغاء أي إمكانية لأن تكون غزة جزءاً من مستقبل اقتصادي مستقل أو سيادي للفلسطينيين.
ما علاقة الممر الاقتصادي الهندي الخليجي (IMEC)
بما يحدث في سوريا ولبنان والعراق؟
– الممر لا يمر مباشرة عبر لبنان أو سوريا، لكنه من ناحية جيوسياسية يقلل من مركزيتهما كطرق عبور تقليدية بين آسيا وأوروبا، لصالح مشروع بديل يتجاوز مناطق النزاع التقليدية ويختصر الزمن والتكاليف.
– هذا التجاوز يضعف الدور اللوجستي والجغرافي لسوريا ولبنان، ويفاقم عزلهما اقتصادياً ضمن معادلة الممرات الجديدة في المنطقة.
– إضافة لذلك، المشروع يأتي في إطار إعادة رسم خرائط النفوذ الإقليمي، حيث يتم إضعاف محاور النفوذ الإيراني والسوري وتحجيم المشاريع المنافسة (خطط النقل الإيراني مثلاً أو طرق سوريا التقليدية) ، ويزيد من الضغوط على الأطراف الرافضة للتطبيع كلبنان وسوريا والعراق لصالح دول الشرط الأوسط المنخرطة في الممر
– ان أحد أهداف المشروع هو محاصرة نفوذ الصين وإيران في المنطقة وتقوية نفوذ الخليج والولايات المتحدة وإسرائيل
– استمرار الحروب أو التوترات في غزة أو لبنان أو سوريا او العراق يهدد استقرار الممر، مما يجعل هذه الدول نقاط ضغط أو تهديد للمشروع إذا لم يتحقق استقرار أو حلول سياسية.
كيف يستفيد هذا المشروع من تقسيم سورية الطبيعية الى دويلات طائفية؟
تقسيم سوريا ولبنان والعراق إلى دويلات طائفية يصب في مصلحة مشروع الممر الاقتصادي الهندي الخليجي الأوروبي (IMEC) من عدة زوايا استراتيجية وجيوسياسية:
أهم الاستفادات
– إاضعاف دور المقاومة الإقليمية: التقسيم الطائفي: يضعف سوريا ولبنان والعراق كـ«محور مقاومة» سياسي وعسكري في وجه المشاريع الغربية والإسرائيلية في المنطقة، خاصة إذا تم إضعاف أو تحجيم قوة حزب الله في لبنان والنفوذ الإيراني في سوريا والعراق.
– تسهيل المرور الآمن للممرات التجارية الدولية تفتيت سوريا ولبنان والعراق إلى كيانات محلية ضعيفة أو متناحرة يقلل من فرص تعطيل أي مشاريع إقليمية ضخمة مثل IMEC، وكذلك يضعف أي تهديد محتمل للممرات التجارية أو خطوط الطاقة العابرة من الأطراف المعارضة للمشروع في دمشق أو بيروت
– عزل النفوذ الإيراني عن البحر المتوسط: التقسيم يمنع إيران من نقل شحنات عسكرية أو طاقة عبر العراق وسوريا ولبنان، ما يمكّن المحور الأمريكي-الخليجي-الإسرائيلي من السيطرة على خطوط عبور وتصدير الطاقة دون منافس في المتوسط، ويعزز مركز إسرائيل على حساب سوريا والعراق ولبنان.
– إعادة رسم خرائط النفوذ لصالح أطراف الممر: التقسيم الطائفي يخلق كيانات ضعيفة يسهل التأثير عليها اقتصادياً وسياسياً، ما يتيح لدول الخليج وإسرائيل والهند التحكم بمستقبل مشاريع النقل والطاقة دون معرقلات قومية أو استراتيجية كبيرة.
الاستفادة العملية للمشروع
– تضعف الدويلات الجديدة قدرتها على الاعتراض، فتُتاح فرص أكبر لاستثمارات البنية التحتية، ويزداد الأمن التجاري للمشاريع العابرة مثل الأنابيب أو السكك الحديدية المرتبطة بالممر.
– تهميش سوريا والعراق ولبنان جغرافياً وسياسياً في المعادلة الاقتصادية الجديدة للمنطقة، فتضيع عليهما الفرصة لجذب الاستثمارات أو لعب دور العبور التجاري أو اللوجستي بين آسيا وأوروبا.
– ان فكرة التقسيم ليست وليدة اللحظة بل مطروحة في استراتيجيات غربية لتفكيك النفوذ العربي القديم منذ عقود، خاصة لتمكين مشاريع اقتصادية أو سياسية جديدة (مثل سايكس-بيكو، الشرق الأوسط الجديد، وغيرها.
– التقسيم الطائفي يزيد من الحروب والصراعات الداخلية، مما يعطي المبرر الدائم لتدخل خارجي بهدف «الحماية» وتأمين خطوط الطاقة أو التجارة الإقليمية.
ان تقسيم سوريا والعراق ولبنان يخلق بيئة هشة سياسياً وأمنياً، ما يسهّل اختراق المنطقة اقتصادياً واستثمارياً لصالح الممر الهندي الخليجي الأوروبي على حساب مصالح شعوبها وقواها الوطنية.
ان الممر الاقتصادي الهندي الخليجي ـ الأوروبي يرتبط بما يحدث في غزة ولبنان وسوريا والعراق من زاويتين:
1 ـ إقصاء هذه الدول جغرافياً واقتصادياً من معادلة العبور الجديدة لصالح تحالفات وطرق بديلة تضعف من نفوذها.
2 ـ قصور تنفيذ المشروع أو تغير مساراته بحسب استقرار هذه المناطق، خاصة فيما يخص غزة التي أصبح الحديث عن تهجير سكانها يثار ضمن سياق التمهيد الميداني لخطوط الممر التجاري الجديد
الخطة البديلة لمنع تقسيم لبنان وسوريا
تقسيم لبنان وسوريا يعد من التحديات الكبرى التي تواجه المنطقة، ولتجنب هذا السيناريو، يمكن وضع خطة بديلة تتضمن عدة جوانب سياسية، اجتماعية، واقتصادية ـ إليك بعض العناصر الأساسية لهذه الخطة:
1 ـ تعزيز الوحدة الوطنية
ـ التواصل بين الطوائف: تنظيم حوارات وطنية تشمل جميع الطوائف والمكونات الاجتماعية.
ـ تعليم المواطنة: تعزيز برامج التعليم التي تركز على المواطنة والانتماء الوطني.
2 ـ إصلاحات سياسية
ـ نظام سياسي شامل: تطوير نظام سياسي يضمن تمثيل جميع الفئات بشكل عادل.
ـ انتخابات نزيهة: إجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف دولي لضمان الشفافية.
3 ـ التنمية الاقتصادية
ـ مشاريع تنموية: تنفيذ مشاريع تنموية تشمل جميع المناطق لتحسين مستوى المعيشة.
ـ توزيع الموارد: توزيع الموارد بشكل عادل بين المناطق المختلفة لتقليل الفجوات الاقتصادية.
4 ـ الأمن والاستقرار
ـ قوات أمن محلية: إنشاء قوات أمن محلية تتكون من جميع الطوائف لحماية الأمن والاستقرار.
ـ مكافحة التطرف: برامج لمكافحة التطرف والعنف، وتعزيز ثقافة الحوار.
5 ـ التعاون الإقليمي والدولي
ـ دعم دولي: طلب الدعم من الدول الكبرى ومنظمات الأمم المتحدة لدعم الاستقرار والتنمية.
ـ حوار إقليمي: تعزيز الحوار مع الدول المجاورة لتفادي أي تدخلات تؤدي إلى تقسيم المنطقة.
6 ـ الخطوات التنفيذية
ـ تشكيل لجان: تشكيل لجان مختصة من ممثلين عن مختلف الطوائف لوضع خطة تنفيذية واضحة.
ـ جدول زمني: وضع جدول زمني محدد لتنفيذ كل مرحلة من مراحل الخطة.
ـ تقييم دوري: إجراء تقييم دوري للخطة وتعديلها بناءً على المستجدات.
تتطلب هذه الخطة تعاون جميع الأطراف المعنية، بالإضافة إلى الدعم الدولي، لتحقيق الاستقرار ومنع تقسيم لبنان وسوريا ـ إن العمل على تعزيز الوحدة الوطنية والتنمية المستدامة يمكن أن يشكل أساسًا قويًا لمستقبل مشترك.

