الكيان المفروض بالقوة
الكيان اللبناني هو منطقة جغرافية أُنشئت بقرار فرنسي، باعتبارها حصة فرنسا المنتصرة في الحرب العالمية. والمفارقة أنّ الحاكم العسكري الذي عُيّن لإدارة لبنان كان نفسه الحاكم في الشام، فقد قسّموا الشعب السوري لكنهم أبقوا إدارته موحّدة فرنسيا، إذ إنّ الشام ولبنان جغرافيًا وشعبيًا من امة واحدة، ومثلهما بقية كيانات الأمة. غير أنّ لبنان والشام كانا من نصيب الفرنسيين، فيما كانت بقية جغرافية الأمة من نصيب البريطانيين.
وتأكيدًا على وحدة الشعب والجغرافيا، لم يجد الفرنسي بُدًّا من صكّ عملة واحدة باسم “سورية ولبنان”، كما أنشأ الكلية الحربية في حمص لتخريج الضباط اللبنانيين والشاميين معًا. وكان إنشاء هذا الكيان إرضاءً لرجال انعزاليين لبنانيين تربّوا على يد الأجنبي من مختلف الطوائف.
الصوت الوطني الرافض للتقسيم
ورغم التقسيم القهري، كان الصوت الوطني الوحدوي، المنسجم مع حقيقة الواقع الطبيعي للأمة الواحدة، هو الغالب؛ إذ رفض مؤامرة سايكس ـ بيكو وسائر الاتفاقات، ورفض الانفصال عن الشام وبقية الوطن السوري. لكنّ الوجود العسكري الفرنسي القوي ثبّت هذا الكيان وجعله “جمهورية مستقلة” بحدود رسمها المستعمر.
حكومات عميلة تحت شعار التعايش
ثم جاء الفرنسي، بالتنسيق مع البريطاني، بحكومة من عملاء متعددي الطوائف، ورفعوا شعار “التعايش الإسلامي ـ المسيحي” وشعار “لبنان لا يكون ممرًا أو مقرًا يؤذي الشام”، بهدف امتصاص الحركة الوطنية الشعبية العارمة. فترسّخت السلطة في لبنان على جغرافيا مصطنعة، وقواعد لتقاسم طائفي ومذهبي للسلطة، بخلاف قانون الحكم الحديث حيث تقوم السلطة على أساس المواطنة والمساواة بين أبناء الوطن الجغرافي الواحد.
إهمال الأطراف وخدمة المشروع المعادي
وقد أهملت هذه السلطة المتعاقبة أطراف لبنان الجغرافية كأنها ملحقة قسرًا بالدولة، فركّزت على جبل لبنان وبيروت العاصمة، وأهملت الشمال والجنوب والبقاع، بل حتى بعض مناطق جبل لبنان. كما عزلت نفسها عن قضايا الأمة، ولا سيما القضية الفلسطينية والاحتلال اليهودي لفلسطين، ولم تستعد حتى لحماية لبنان نفسه. فالعدو اليهودي، المدعوم من بريطانيا والغرب، كان يُعِدّ نفسه جيدًا بالتسليح والتنظيم، في حين بقيت السلطة في لبنان بلا استعداد عسكري جاد، رغم أنها صنيعة الغرب نفسه، لأنها منذ أن عيّنها الأجنبي تدرك دورها التابع له.
لبنان في قلب المشروع الاستعماري
وهكذا غدا لبنان جزءًا من مشروع استعماري أوسع: فالغرب زرع الكيان اليهودي في فلسطين، وزرع سلطات تابعة له في محيطها الجغرافي، منسّقة معه بطريقة أو بأخرى. وبذلك لم تكن السلطة في لبنان وليدة الإرادة الشعبية ولا معبّرة عن حقيقة الشعب في لبنان، بل كانت خاضعة للأجنبي وما زالت.
نشوء المقاومة
وقد سمح إهمال السلطة في لبنان للعدو اليهودي بالعبث بجنوب لبنان، فمارس القتل والتشريد ضد أبنائه، ولم تحرّك الحكومات اللبنانية أي ساكن، كأنه قدر محتوم. بل إن هذه الحكومات العميلة رأت “قوة لبنان في ضعفه”، حتى قبلت اتفاق القاهرة الذي سمح بانتقال منظمة التحرير الفلسطينية ومقاومتها إلى لبنان بعد ضربها في الأردن. ولم يكن ذلك حبًّا بالمقاومة الفلسطينية، بل إذعانًا لإرادة الأجنبي والمخطط اليهودي، على أساس أنّ الجنوب لن يكون حاضنًا لها، لأن سكانه أغلبهم من طائفة غير طائفة الفلسطينيين، وفي اعتقاد المشروع اليهودي تُشعل هذه الخطوة اقتتالًا طائفيًا بين المقاومة وأهل الجنوب. غير أنّ المفاجأة كانت أنّ أبناء الجنوب احتضنوا المقاومة وانخرطوا فيها، لأن فلسطين قضيتهم كما هي قضية أبناء الأمة السورية جميعًا.
الحرب الأهلية مشروع لإسقاط المقاومة
وعندما فشلت محاولات شقّ الصف عبر النزعات الكيانية والمذهبية، بفضل وعي الشرفاء من الأحزاب الوطنية وقيادة الإمام موسى الصدر وتأييده للمقاومة، لجأ الانعزاليون العملاء إلى مشروع شيطنة المقاومة وإشعال الحرب الأهلية. ولم يكن ذلك دفاعًا عن لبنان ولا رفضًا للهيمنة الفلسطينية المزعومة، بل تنفيذًا للمخطط الأجنبي واليهودي. وعندما فشلت الحرب الأهلية في إنهاء المقاومة، أقام العدو شريطًا حدوديًا في الجنوب بقيادة العميل سعد حداد، لكن المقاومة استمرت في مناوشة العدو عسكريًا لتثبيت حقنا القومي والوطني في فلسطين.
اجتياح 1982 واتفاق 17 أيار
بطولة المقاومة وعملياتها العسكرية أجبرت العدو اليهودي على أن يقوم بنفسه عام 1982 باجتياح لبنان حتى وصل أبعد من بيروت، وفرض اتفاق 17 أيار عبر حكومة عميلة ورئيس تابع له. لكنّ المقاومة والأحزاب الوطنية أسقطت الاتفاق وأسقطت الحكومة وأوهام التقسيمين، كما حررت لبنان من رجس الاحتلال، مثبتة سيادة لبنان في وجه المشروع اليهودي التوسعي. وأمام إنجازات المقاومة، عمل العدو اليهودي، بالتنسيق مع المستعمر الغربي والأنظمة العربية الرجعية، على محاولة إشعال الفتن المذهبية والطائفية، غير أنّ هذه المشاريع فشلت أمام صمود المقاومة والتفاف الشعب حولها.
من 2006 إلى 2024: المقاومة تتصدّى
ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف العدو عن محاولاته، سواء بمحاولة الاجتياح عام 2006 وتكرارها عام 2024، ولقد فشل بالمحاولتين بفضل بطولات المقاومة الباسلة، أمام عجز العدو اليهودي عن التقدّم البري بدل خطته، وبدأ بالحصار والضغط عبر الولايات المتحدة الأمريكانية وبعض الأنظمة العربية العميلة، وصولًا إلى محاولات فرض نزع سلاح المقاومة وتجريد لبنان من قوته الوحيدة عبر الحكومة التي صنعها الأمريكي. وترافق ذلك مع سياسات حكومية هدفت إلى عزل الجنوب وإهماله ومنع إعمار ما هدمه العدو، حتى منعت إعماره بمساعدة الدول الصديقة للمقاومة، كخطوة على طريق فرض تسوية مع العدو شبيهة بما جرى بعد اجتياح 1982.
وعي الشعب يسقط المشاريع
إنّ هذه الحكومة قد أسقطت نفسها بنفسها لأنها لا تمثّل الشعب في لبنان، ولا تدافع عن سيادته ولا عن استقلاله، ولا عن حريته ولا عن حقوقه، بل تجسّد إرادة الأمريكي واليهودي المحتل. وشعبنا بدأ يعي هذه المخاطر، وسيُسقط المشروع الأمريكي ـ اليهودي بقوة إرادته وإيمانه بوطنه وبوجوده الحر.

