حدث في المملكة المتحدة خلال النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي أن تمكنت رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر من السيطرة على مجلس العموم بأكثرية ساحقة من حزب المحافظين. وتكرر فوز السيدة «الحديدية» بدورة ثانية ما أتاح لها مواصلة معركتها مع نقابات العمال التي كانت، حتى ذلك الوقت، تتمتع بقوة استثنائية عجزت الحكومات المختلفة عن ترويضها.
كان انتصار ثاتشر حاسماً، لكن الثمن السياسي والاجتماعي تجاوز كل التقديرات إلى حد أن كبار الشخصيات في حزب المحافظين الحاكم عبروا عن خشيتهم من احتمال وصول المجتمع البريطاني إلى مرحلة المواجهة الداخلية التي تحقق الإلغاء وليس الإصلاح. وقال أحدهم يومها ما معناه إن الديمقراطية البريطانية قامت منذ قرون على التوافق وليس على إلغاء الآخرين، بغض النظر عن عامل الأكثرية أو الأقلية.
لا شك في أن الديمقراطية ليست قيمة مطلقة، وإنما هي مقيدة بالمصالح القومية الأساسية. والمفهوم الديمقراطي بحد ذاته لا يمكن أن ينشأ على قواعد صحيحة إلا بعد أن يكون المجتمع قد أدرك هويته القومية وأقام مؤسساته السياسية على قاعدة وحدة الشعب في دورته الاقتصادية الحياتية الموحدة.
الأكثرية التي توصلها اللعبة الديمقراطية إلى سدة السلطة، سواء كانت نسبية أو مطلقة، تملك القدرة على تنفيذ كل برامجها بفعل الصيغة التمثيلية التي تتمتع بها. وفي حال قررت هذه الأكثرية المواجهة مع المؤسسات الدستورية الساهرة على صيانة القوانين، فيمكنها الإقدام على تعديلات دستورية تحقق لها ما تريد. ومع ذلك، فإن «المصالح القومية الأساسية» ليست شأناً إدارياً إجرائياً، بل هي عملية اجتماعية معقدة ناشئة عن حصول الوعي القومي وتكوّن الوجدان القومي في مصهر وحدة الحياة.
إذن نحن أمام نوعين من المفهوم الديمقراطي: الأول يحمل الخلاف مع الآخر إلى مدى يقف عند سقف وحدة المجتمع ولا يتجاوز الخطوط الحمراء على الصعيد القومي. والثاني يخوض معركة التناقضات إلى حد إلغاء الآخر حتى لو أدى ذلك إلى تدمير التوافق الاجتماعي. ولا شك في أن النوع الثاني هو السائد في المجتمعات التي لم تنجز بعد وحدتها الاجتماعية لاعتبارات داخلية أو خارجية. ذلك أن الممارسة الديمقراطية (الانتخابات النيابية على سبيل المثال) في مجتمع منقسم دينياً أو طائفياً أو عرقياً تعتبر الطريقة المناسبة لهيمنة الأكثرية وتهميش الأقلية أو الأقليات!
وفي ضوء هذه المقدمات، يتوجب علينا أن ننظر إلى ما تحاول الحكومة اللبنانية القيام به في موضوع «جمع سلاح المقاومة». فعلى الصعيد الداخلي، تعتبر الحكومة أنها تمتلك ورقتين قويتين يمكن أن ترجحا كفة الميزان لصالح «جمع السلاح»، وهما: أولاً ـ عدم وجود إجماع شعبي في لبنان، ليس فقط حول ما يسمونه «حصرية السلاح»، وإنما حول المقاومة بصورة عامة. وثانياً ـ تحظى الحكومة بتأييد أكثرية نيابية وازنة تؤمن لها «الثقة» في حال وصلت الأمور إلى حد المواجهة.
وقبل الحديث عن «ورقتي» الحكومة اللبنانية، لا بد من الإشارة إلى أننا لا نتجاهل ضغوط واشنطن التي تتعامل مع الدولة اللبنانية بعقلية المندوب السامي في أزمنة الاستعمار، وإنما نريد أن نكشف حجم المخاطر الوجودية على الشعب اللبناني في حال تجاهلت الحكومة طبيعة التركيبة السكانية اللبنانية وتنوع اتجاهاتها. ذلك أن التاريخ السياسي للدولة اللبنانية لم يعرف «وجود إجماع شعبي» حول مسألة أساسية، فالاستقطاب كان يهيمن على الشعب كلما برزت مشكلة تمس مصالح الجماعات المختلفة.
إن غياب «الاجماع الشعبي» في ما يتعلق بخطة «جمع السلاح» لن تعوضه الأكثرية النيابية التي منحت حكومة نواف سلام الثقة، وما زالت على استعداد للوقوف إلى جانبه. فديمقراطية الأكثرية والأقلية، أي الديمقراطية التمثيلية، لن تصمد في مجتمع فسيفسائي غير متجانس. وإذا أضفنا عوامل الضغوط الأميركية، والاعتداءات الصهيونية، والأزمات المعيشية… نستطيع أن نتخيل حجم الكارثة المخفية في ورقة من هنا وورقة من هناك!
عندما تُعيق التناقضات الشعبية مجالات التفاعل الاجتماعي الفعلي بين مكونات الأمة، أي عندما تشكل الأديان والطوائف والأعراق والطبقات حواجز تمنع نمو وحدة الحياة القومية، فإن الديمقراطية التمثيلية تختزن في ذاتها عناصر نشوء «ديكتاتورية الأكثرية» الداعية ـ نظرياً أو عملياً ـ إلى إلغاء الآخر الأقلوي. ففي المجتمعات التي يغيب عنها التوافق الاجتماعي القائم على الإرادة الواحدة وعلى وعي المصالح القومية الحيوية، يُرجح أن تصبح الديمقراطية التمثيلية «أداة محتملة» لإلغاء الآخر أو قهره أو تهميشه. إن العملية الديمقراطية هنا تنتج انقساماً أهلياً حاداً، سيؤدي حكماً إلى حرب المجتمع على نفسه.

