هل للحروب الاهلية أسبابها البنيوية؟

لمسارات الحروب الأهلية الحديثة طابع يسحب التاريخ إلى الأسفل. ظهر ذلك بصفاقة وشكل صارخ خلال الحرب الأهلية اللبنانية في نيسان في منتصف السبعينيات من القرن العشرين، قبل أن تنفجر الحرب الأهلية في العراق مع دخول الاحتلال الأميركي إليه في نيسان 2003، وقبل انفجارها في سوريا في آذار 2025 في مذابح الساحل.

ستساعد هذه الحروب الأهلية المتنقلة من لبنان والعراق وسوريا، في مناقشة الأسئلة التي تتعلق بكيفية بدء الحروب الأهلية في العالم، بقصد فهم العوامل والديناميات التي قد تحدد مساراته.

يُعد تَوَجُّه الجماعات في سوريا إلى التبصر والتفكر على استمرارهم في «وضع رِجْلٍ داخل سوريا ورِجْل خارجه» مؤشرًا على أن عوامل الشك في جدوى العلاقة بين عناصر النسيج السوري تتسع عند قطاعات واسعة لم تعد الاحزاب المدنية/ العلمانية تستطيع تجاهلها. ومهما كانت النتيجة فإن الحال لن تعود إلى سابق عهدها؛ فهل ستكون صدمة تعمِّق شروخ المجتمع السوري أم ستكون موقِظًا يشحذ هِمَمَ القيادات والشخصيات الوطنية فتتعالى على أنانيتها السياسية وتسارع إلى طرح مشروع انقاذي للوطن الذي يترنَّح ويَهُمُّ بالسقوط؟

لا نشك في أن سوريا، ظلت تعاني في تاريخها من أنظمة الاستبداد الذي استنزف قوتها مكرسًة بقاء الطوائف والإثنيات في انعزالها وتوجسها من بعضها البعض، وقد فشلت كل شعارات البعث العربية في تقديم مقاربة تكرس وحدة الحياة بين عناصر النسيج المجتمعي، وجعل هذه العناصر (الجماعات/ الأقليات) تتباهي باستقلالها عن بعضها.

كما ان الحروب الأهلية ليست دائما بسبب الظلم والطغيان، ولا الجماعات المتمردة بالضرورة تنشد العدالة والديمقراطية، بل ربما تبحث عن نفوذ أكبر أو انفصال أو غير ذلك. ولا يخفى أن التدخل الخارجي، إقليمي ودولي، والاستقطاب على أسس دينية أو إثنية من شانها خلق البيئة المساعدة للعنف. كما ان التغذية المتبادلة والصاعدة بين الحروب الأهلية/ الداخلية وضعف الحكومات ومختلف أوجه الفساد والفشل، لا يمكن انكارها، بل أن هذه النتائج من أهداف التمرد المسلح والإرهاب لتبرير المزيد من الحرب والقتل. وهذه الحروب تولد الظلم، لأن العدالة وحقوق الإنسان ورعاية الضعفاء لا مكان لها في ساحة الحرب.

 قبل إسقاط نظام البعث لم تكن هناك حربًا أهلية بالمعنى الحرفي للجملة، بل كانت حربًا إرهابية. أي القتل من جانب واحد، زاولته جهة (جبهة النصرة) تختبئ في جلباب القوة “الإخوانية” التي سكنت دمشق الآن. واستهدفت تلك الجهة جماعات مذهبية أو إثنية بعينها (العلويين والدروز والمخطط يسير بعد ذلك نحو تفجير المواجهة مع الأكراد بطلب تركي). والتنوع المذهبي/ الديني والاثني في الحرب يتسم بقدر من التعقيد، ونجد الكثير من الدراسات تستخدم مفردة الاثنوية بمعنى اصطلاحي فهي شاملة للدين واللغة والعنصر أي أن الإرهاب توجه نحو جماعة بشرية بهوية مذهبية/ عنصرية مغايرة. وفي عام 2016 ظهرت دراسة لابراهيم البدوي وكريستينا بودي نشرت من RESEARCH GATE بعنوان «هل أن الحروب الاهلية والانقلابات والشغب لها نفس الاسباب البنيوية؟».

ولكن «كيف تبدأ الحروب الأهلية»؟

جاء هذا السؤال كعنوان للكتاب الذي نشرته الإعلامية الأميركية الشهيرة بربارة جيل والترز بداية العام 2022، وتزامن النشر مع الذكرى الأولى لحالة الشغب التي حصلت في «مبنى الكابيتول» – العام 2021، ويتحدث الكتاب عن حالة تمر بها المجتمعات وهي «الديمو سلطوية». أي أن الصراع الإنساني في القرن الأخير كان بين السلطوية والديموقراطية على مختلف درجاتها التي ما تلبث أن تنتج نوعًا من الصراع الاجتماعي يقود في الغالب إلى حرب أهلية، تبدأ «بالموتورين من أمثال عناصر الميليشيات المسلحين الذين ينقلون أعمال العنف مباشرة إلى الناس». خصوصًا أن الحروب الاهلية التي تمزق نسيج المجتمع تؤدي تدريجيا الى تآكل القيم الاخلاقية داخل هذا المجتمع.

ثمة مفارقة صاخبة، فالكل يتحدث عن الديمقراطية بالمؤنث، هناك من يغازلها من الشرفات، وهناك من يحاول مشاكستها في الطريق، بالإضافة إلى من سعوا إلى خطب ودها بهذا الشكل أو ذاك، لكن لا أحد تجرأ على دخول مغامرة العشق مع هذه الفاتنة، التي بدت تتحول إلى مثال مجرد عن الواقع!

وكلما ارتفعت موجات الدمقراطية زاد احتمالات الحرب الأهلية، مثلاً في عام 1870 لا توجد دولة فيها حرب أهلية، ولكن في عام 1990 كان في العالم خمسون حرباً أهلية من البوسنة في يوغسلافيا السابقة إلى الصومال إلى الكونغو وروندا، وغيرها من الصراعات.

لا تحدث الحروب الأهلية في الدول الناضجة ديمقراطيًا، وأيضًا لا تحدث في الدول السلطوية، تحدث عندما يكون للمواطنين شيء من الديمقراطية مثل حق التصويت، ولكنهم يعيشون تحت قيادات لها سلطات واسعة وبعيدة عن المساءلة، ومن مؤشرات هذه الحروب الأهلية: الفقر، والعرقية أو المذهبية، حجم السكان، عدم المساواة، الفساد، غياب العدالة، التهميش لقطاع من السكان. والحروب الدينية والاثنية وعمليات الارهاب تعني ان الوطن بأكمله أصبح ساحة للحرب. وفي هذه الاوضاع تزداد المظالم بسبب الحروب ذاتها، وتضيع فرص النماء والازدهار، وبالتالي تؤسس الحرب لمزيد من نوعها. وكم من عناصر عدم الاستقرار نجدها أمامنا تتقافز، ولكن تركيبتنا النفسية تمنعنا من الاعتراف بالمخاطر.

وهناك دراسات، أشهرها أعدها باحثان برعاية البنك الدولي وهما بول كوليير وأنكي هوفلر ونشرت لاحقًا في أوراق اكسفور الاقتصادية عام 2004. تناولت هذه الدراسة الحروب الداخلية بين عامي 1960 و1999. بعنوان «الأطماع والمظالم في الحرب الاهلية». وتوصلت الدراسة، إضافة إلى ضعف الدولة والفساد، إلى أن دافع الاطماع والفرص هو الأقوى في تفسير حدوث الحرب الاهلية أي أن الجماعة المحاربة تنظر إلى المسألة من زاوية الجدوى أو العقلانية العملية عبر مقارنة التكاليف بالمنافع واحتمالات النجاح. فالحرب هنا أداة للوصول إلى مكاسب سياسية والسيطرة على الموارد.

كانت أوروبا تعاني من الحروب الأهلية والداخلية، فلقد اندلعت مع بداية القرن العشرين حرب الثلاثين سنة، من 1914 إلى 1945 إضافة إلى حروب صغيرة مثل الحرب الأهلية الروسية والإسبانية، حيث وقعت الحروب الداخلية في 73 من تلك الدول، وعدد الحروب 127 حربا وضحاياها أكثر من 16 مليون انسان، ما جعل بعض المؤرِّخين يقولون: إن التاريخ لم يعرف قبل أوروبا هلاك إمبراطورية بتناحرها الداخلي دون أي تدخل خارجي.

هناك عامل مهم يمنع الأوروبيين من العودة إلى الانقسامات الوطنية التي قضت على الملايين منهم في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهو وجود الجيل الذي عايش تلك الحروب في صناعة القرار، فيقارن بين الأمن الذي نعمت به أوروبا بفضل مشروعها الوحدوي والحروب التي أهلكتها نتيجة انقساماتها الوطنية، ولن يترددوا في اختيار الوحدة رغم مشاكلها ومساوئها.

كما أن هناك دراسات ترجح التفسير الثقافي وعندما تعرّف الثقافة بأوسع من الحضارة أو المدنية. وتطرح الفرضية الثقافية المعارضة فرضية اخرى تسمى الحداثوية وتنصرف الأخيرة إلى العوامل الاقتصادية وتوزيع الثروات والدخول، وبنية الانتاج ومستوى التطور الاقتصادي ومدى الاعتماد على صادرات المواد الأولية… وهكذا. أما الفرضية الثقافية فتولي اهتمامًا كبيرًا بالجانب المؤسساتي السياسي إلى جانب التنوع الإثني والديني.

عوالمنا الاجتماعية/ الوطنية اليوم هشةٌ جدًا. لا تتحمل أي صراعات أو أي تدخل خارجي، مهما كانت «النوايا”. تعاملت الحداثة بقسوةٍ مع عوالمنا الاجتماعية التي تعيش في حالة عدم وعي، لكن عندما تتحول هذه الحالات إلى موضوع وعي عبر تدخلات فكرية مشبوهة، ولدوافع سياسية، وتصبح «لذاتها»، عندها تخرج الأمور عن السيطرة.

علينا أن ندرك أن الحالات الاجتماعية/ الثقافية الحقيقية في عالم اليوم تكمن في مسارات أخرى.. مساراتٍ تتساوى فيها جميع الأطراف المتنازعة دون أن يشعروا.