حول كتاب الفلسفة الرواقية ل ادمون ملحم –  الحلقة الثانية

إن فلسفة زينون متطابقة مع خط التفكير السوري وصادرة عن النظرة السورية الفلسفية فاختلافه مع أفلاطون وأرسطو ما هو إلا اختلاف بين نفسيات الشعوب من جهة وفي منهجية التطبيق من جهة أخرى، فالفلسفة الرواقية عملية ضمن الحيز الوجودي وفي الطبيعة وغير معنية بما هو وراء الطبيعة، فالمعرفة من وجهة نظر الرواقيين تبدأ بالإحساس أول مراتب المعرفة وأساسها وذلك لتكوين التصور الحسي، والتي تعني الصورة الذهنية لموجود حقيقي أما المرتبة الثانية فهي التصديق ومن ثم مرتبة الإدراك ومن ثم التصور المحيط والذي يشكل معيار الحقيقة وهو أيضاً مرتبط بالوضوح المتعلق برؤية الحقيقة.

أما الفصل الخامس فقد خصصه الدكتور ملحم لتتبع آثار تعاليم وفلسفة المدرسة الرواقية  مستشهداً بقول سعاده: إن المدرسة الرواقية أهم مدارس الإغريق الفلسفية على الإطلاق  فقد وصلت تعاليمها وفلسفتها إلى العالم الروماني عن طريق الفيلسوف الروماني شيشرون106-43 قبل الميلاد والذي كان أحد تلاميذ الفيلسوف السوري بوسيدونيوس الأفامي كما كان للرواقية حصة في التشريع الروماني والمتمثلة بتأثر المشرعين الرومان بالفلسفة الرواقية الرافضة للظلم والاستعباد والساعية لنشر الأخوة والمحبة والسلام من خلال العدالة والمساواة بين البشر فكان لفلسفة زينون بالغ الأثر في حياة الإمبراطورية الرومانية وهنا يستشهد المؤلف بقول أخر لسعادة في هذا المجال فيقول: استمر أثر فكره عاملاً في الإمبراطورية الرومانية وخصوصاً في مدرسة بيروت التي طورت فلسفة الشرع في اتجاه فلسفة الرواقية. لقد استطاعت الرواقية النفوذ إلى الأباطرة الرومان وإلى العالم الروماني من خلال اعتناق العديد من الأباطرة لهذه الفلسفة ومن أبرزهم كما ورد أنفاً الفيلسوف الإمبراطور مارك أوريل، كما أن المسيحية لم تكن على نقيض مع الفلسفة الرواقية، بل جاءت منسجمة معها حيث تطابقت الأفكار الرواقية ذات الصلة بالقانون الطبيعي والأخوة الكلية والمساواة مع التصورات المسيحية فالبشر جميعاً مخلوقون على صورة الله.

كما بعثت الرواقية خلال العصور الوسطى في أوروبا بعد نشر ترجماتٍ لمؤلفات رواقية شهيرة لشيشرون ومارك أوريل وسنكا وإبيكتيتوس وهو ما انعكس على السلوك المجتمعي بشكل عام فساعدت في تهذيب السلوك الفردي وتربية النفوس تربية صالحة وفي الدعوة إلى العدالة وخدمة الوطن. أما في عصر النهضة فقد تأثر بالرواقية عدد من المفكرين والفلاسفة ومن أهمهم ميكافيللي وميشيل دي مونتيني ذلك الفيلسوف الذي اعتنق الرواقية باكراً كما تأثر بالرواقية المفكر البلجيكي جوست ليبس وقد كان أستاذاً في جامعة لوفان، وفي القرن السابع عشر استمرت الرواقية في الانتشار في كل من فرنسا وإنكلترا وهولندا وقد تأثر بها الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت والهولندي سبينوزا والإنكليزي فرانسيس بيكون وفي القرن الثامن عشر برز الفيلسوف الألماني كانط والذي بدا واضحاً تأثره بالفلسفة الرواقية ّأما في التاريخ المعاصر فقد تأثر بها كل من الفيلسوف الأمريكي لورنس بيكر.

 أما في الفصل السادس والمعنون ب «سعاده وزينون الرواقي» فيبحث الدكتور ملحم في العلاقة بين سعاده وزينون وكيف تأثر سعاده بالرواقية حيث يصفه المؤلف بأنه زينون آخر فقد كان سعاده متماهياً مع مبدأ المدينة الكونية الفاضلة التي أرادها زينون الرواقي، ومما يقوله سعاده في هذا المنحى: لسنا من الذين يصرفون نظرهم عن شؤون الوجود إلى ما وراء الوجود بل من الذين يرمون بطبيعة وجودهم إلى تحقيق وجود سامٍ جميل في هذه الحياة وإلى استمرار هذه الحياة سامية جميلة.

كما يشير المؤلف إلى أن سعاده على رابط قوي بين فكره الإنساني المنظم وفكر زينون الاستشراقي والعملي فعودة سعاده إلى مبدأ الواقع الاجتماعي في الأمة والذي ينهي الفوضى الاعتباطية العقائدية تشبه تماماً عودة زينون إلى مبدأ الناموس الطبيعي، فالتفكير السوري قادر على المساهمة في ترقية الثقافة ودفع الحياة نحو أرفع مستوى وفي هذا الخصوص يقول سعاده: إن الحركة السورية القومية لم تأتِ سورية فقط بالمبادئ المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة.

ويرى الدكتور ملحم أن سعاده كان يريد السلام والحرية لسورية لأجل السلام العالمي ولأجل المصلحة الإنسانية جمعاء، فكيف يمكن أن يكون السلام الحقيقي موجوداً وسوريا تعيش مسلوبة الحرية، ويسترشد المؤلف هنا بقول سعاده: فنحن يجب أن نكون أمة عظيمة حرة ليس لمصلحتنا فقط، بل لمصلحة الإنسانية كلها.

فالنهضة القومية الاجتماعية تتوافق مع السلام العالمي بعد تحقيق انتصاراتها التي تؤهل الأمة السورية لنيل مرتبتها الممتازة بين الأمم وهو ما يتحقق بالدفاع عن كيانها وحقوقها وتحرير أراضيها وتوحيدها، وإنّ العقيدة القومية الاجتماعية أساس للوحدة القومية. كما ويقارن المؤلف في هذا الفصل ما بين فلسفة سعاده وفلسفة زينون في مواضيع الأخلاق والمساواة والواجب، والإرادة، والعقل، والحكماء.

يتميز كتاب المدرسة الرواقية من زينون إلى سعاده لمؤلفه الدكتور إدمون ملحم بمعالجته لتاريخ الفلسفة الرواقية ومحاولة الغوص في أعماقها الفلسفية وتقديم طروحاتها بطريقة سهلة وسلسة وممتعة للقارئ فلا يمكن للقارئ أن يشعر بالملل خلال مطالعته للكتاب، بل على العكس كلما انتهت صفحة من صفحاته تشتاق النفس لمعرفة ما تحتويه الصفحة الأخرى فتسلسل أفكاره وطريقة الصياغة تنم عن عقلية إبداعية وسلوك منهجية علمية أصيلة.

كما وتتأتى أهمية الكتاب من ندرة المراجع العربية التي تتحدث عن الفلسفة الرواقية حيث يشكل هذا الكتاب رفداً جديداً وقيماً للمكتبة العربية، ويجب الإشارة هنا إلى أهمية أخرى، وهي مقارنة سعاده بزينون الرواقي ومدى تأثر سعاده به وتأثر العقيدة القومية الاجتماعية بالأفكار الفلسفية الرواقية أيضاً.

د. عبد الوهاب أبو صالح