منذ مؤتمر وستيفاليا 1648، الذي أنهى حروب أوربا البينية، تكرس عالمياً مفهوم الاندماج الاجتماعي كأحد القيم العليا للبشرية، فمنه ابتدأ التكوين المجتمعي المولد للدولة، بواسطة توحيد الهوية، «دون إبادة المختلف»، أو حتى إيذائه بأية طريقة، بل تحويله إلى إمكانية وطنية منتجة، ضمن ثقافة حقوقية تعتمد المساواة الواضحة كي تقف وراء السلوك الاجتماعي، وتعطي الأولوية لحياة الفرد الاجتماعي وصيانة كرامته، وفي هذا سعي حثيث نحو الارتقاء بالتحضر البشري، حيث تطوى الحقب الثقافية كتراث، مفسحة المجال لغيرها فرصة القيام بأدوار فعالة في عملية استمرار التحضر الارتقائية، المرتبطة ـ شاء من شاء وأبى من أبى ـ، بالارتقاء المعرفي والتكنولوجي، بمعنى ضبطه ضمن السياق القيمي للحقب الثقافية المتوالية، أو بمعنى مبسط تحويل التراث إلى فلكلور، لا يلغي الخصوصية، ولا يفرض على المجموع بالقوة العارية، حيث يستوعب المختبر الاجتماعي تلك المصالحة بين الفلكلور والتراث، من دون التأثير على المصالح العمومية، خصوصاً حق الحياة بكرامة.
هنا نحن أمام عملية حيوية، موجودة في الواقع، وليست مجرد تنظيرات، أو إستعادات عاطفية للماضي المنتهي بفعل الحياة المنتجة للتحضر، لذلك تسعى جميع البلدان المتحضرة معرفياً، إلى إذكاء عملية الاندماج المجتمعي، بخلق وظائف اجتماعية للأفراد، ضمن هيئات مجتمعية ( أحزاب، جمعيات، نوادي، نقابات، تجمعات ..إلخ)، تؤكد امتلاك المشاركين لفضائهم الاجتماعي، الذي يسمى بالمجاز « وطنية »، التي لا يحتكرها أحد، فالانسجام مع المنظومة الحقوقية التي ارتضاها المجتمع لنفسه، هو الوطنية بعينها، وهو ما يكفي للإنتماء إلى وطن، قوامه الحدوث الدائم للمجتمع والدولة ( المعاصرين حصراً)، ولهذا تنظم الدولة المعاصرة، جميع الإمكانيات المتاحة للحصول مقابلها على هوية تمايزها من ناحية الحضور «فقط» عن الآخرين في المجتمعات الأخرى المتمايزة أيضاً، كتحشيد للتنافس الإبداعي بينها، حيث ينتج الاندماج الاجتماعي تلك الشخصية المتماسكة، في الإعلان عن نفسها كمشارك في صياغة الحياة البشرية المتحضرة، كما وصلت إليها الحضارة في العصر والأوان.
لا يمكن لصراع هوياتي ( بالمفهوم العتيق للهوية) أن ينتج حضارة أو حتى تحضر، فهو صراع همجي يحدد طريقة توحيد الهوية بإفناء الآخر وإبادته، وهو يقود في حال حسم هذا الصراع، إلى تفتت وتبعثر هوياتي، يديم الصراع الهمجي المتناسل، لأنه لا يجيب على سؤال الهوية ووظيفتها في الواقع الملموس، والتهمج هو مرحلة ثقافية متطورة ومرتقية ( في الاتجاه السلبي طبعاً) حسب منتجات المعرفة والتكنولوجيا، حيث تعيش كطفيلية غير منتجة ولا مشاركة في الإبداع الإنساني، تحت شعارات الخصوصية، أو شعار أتركونا وشأننا ولا نترككم لشأنكم، حيث يتم إنتاج تجمعات سكانية تدعي اجتماعاً مجتمعياً كاذباً، وهي في حقيقتها، إما تجمعات ناكصة عن حالة إحداث مجتمعي، أو هي لما تزل في مرحلة ما قبل المجتمع، وبالتالي ما قبل الدولة ووظائفها المجتمعية.
الاندماج ليس قضية خيرية، أو جمالية، بل هي عملية مصالحية، تحفظ للمجتمع المندمج حقه بأن يكون موجوداً وفاعلاً، وما كل الفاقة والهزائم التي نمارسها، إلا نتاج التخلف الحقوقي الذي يحسم التفوق لصالح الأقوى، وشرطه الوحيد للأضعف أن يكون أعزلاً، وهنا تتجلى معاني البطولة التراثوية، بأبهى صورها، تحت شعار استعادة الأمجاد، في ظل الكهرباء المقطوعة، والأمن الغذائي والصحي المفقودان، وانعدام الأمان بمعانيه جميعها، فليس من مسؤول عن حياة شركائه في المصالح، إذ لا مصالح، سوى تحويل التراب إلى ذهب بقدرات أسطورية خرقاء. فالاندماج يعني التشارك وليس مجرد التعاون، أو الفزعة (تيمناً بالألفاظ المتداولة اليومين دول)، هو حالة إسعافيه دائمة واستراتيجية، تجب صيانتها والحفاظ على ديمومتها، من أصغر الأشياء إلى أكبرها، وهي لا تنقسم إلى أجزاء ومراحل، فأي عطب يظهر على الاندماج مهما كان ثانوياً هو عطب قاتل استراتيجياً، ومن هنا وكمثال، يبدو الفن ضرورياً لأمن الاندماج، فهو لا يرصد و يؤشر إلى حالات العطب فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى الحلول والاقتراحات، المجتمعات المتعافية أي المندمجة، تعرف كيف تحول هذه الاقتراحات إلى فعل تربوي ثقافي وسياسي بواسطة الهيئات المجتمعية المذكورة آنفاً.
لن نجترح نحن ( وجميع البلدان التي لا تستطيع الاندماج الاجتماعي ولا تريده أيضا) لن نستطيع إحداث نموذجاً خصوصياً، مهما كانت الأيديولوجيا تدفع بنا إلى هذا الادعاء، فتطورات العصر المعرفية والتكنولوجية، التي تؤثر في أدق تفاصيل الحياة البشرية، جاعلة الحياة دون تواصل وتفاهم معها حياة جحيمية، فاستراتيجيات البقاء، مرتبطة تماماً مع المعرفة والتكنولوجيا المحدثة ( ومنها تكنولوجيات الاجتماع)، وأي تقصير بالتفاهم معها يعني تماماً عدم اللحاق بها، وما الأزمات المتراكبة والمتوالية التي تقع علينا ( من البابوج وحتى الطربوش)، إلا تجلٍ لفشل تكنولوجيات الاجتماع ( سياسة واقتصاد وتربية ودفاع وخدمات)، التي يرأسها الاندماج، كمواد أولية ضرورية لإحداث المجتمع المعاصر، حيث الحقوق الواضحة والمعلنة، والقابلة للتطبيق والممارسة، حيث لكل فعل اجتماعي أو مجتمعي مخرجات سلبية أو إيجابية، ولا يمكن لآية فهلوة سياسية كانت أو أيديولوجية أن تعتم عليها، فشح المياه يلمسه العامة والخاصة، وليس بحاجة إلى مبررات أو ذرائع لمجرد معرفة السبب، هذه المعرفة التي لا تغيّر في وقوع العطش، ما يعني تقصيراً، أو غباءً أو قلة علم ومعرفة، وهذا لا يختلف عن سوء النية بشيء من ناحية النتيجة النهائية، لتصبح الحاجة إلى الاندماج، بمعناه الحقوقي الكامل، بنفس ضرورة المياه، التي لم تعالج استراتيجياً بوقت سابق ولن تكون لاحقاً، طالما كانت هناك مصالح أقل من مجتمعية تترصد لأي شح أو نقص من مسببات العيش.
لقد بدأت السودان كدولة موحدة في أكثر من نيل، وتعلمنا في المدارس أن المنتوج الزراعي لهذا البلد يكفي «الوطن» «العربي»، وتوالت السلطات الغاشمة عليه، ليصبح كما نراه الآن، بلد مقسم وآيـل للتقسيم مجدداً الطوائفي والأثني، وحتى على لون البشرة، ولكن الأهم من هذا كله هو فقدان سكانه لحق الحياة بكرامة، إن كان عن طريق القتل المباشر بقصد إبادة الآخر، أو عن طريق المجاعة، بعد أن بشرتنا الكتب المدرسية بكفاية محاصيله لكل «العرب».
البداية هي الاندماج الاجتماعي، بتوحيد الثقافة الحقوقية والمساواتية وتعميمها، بأساليب الدولة التي تمتلك الأساليب التربوية والقانونية وحتى العقابية، لتكريس هذه المعرفة، التي يمكن اعتبارها قارب النجاة، وإلا إلى السودان، در.

