حروب إسقاط الهوية السورية المستباحة هل للديمقراطية أنياب؟ – حلقة أولى

تمر منطقة المشرق العربي اليوم بوضع مشابه لذلك الوضع الذي ساد في مطلع القرن العشرين، فحالة انعدام الثقة واللايقين تهيمن على جميع مفاصله، وتقاطع المصالح والطموحات، الإقليمية/ الدولية لا يخفى على احد، والاضطراب والتململ يفرض نفسه على الجميع، وما هذا التصاعد في الحديث عن الحرب العالمية الثالثة والعدوان على إيران والتهديد باستخدام الأسلحة النووية وقرب المعركة النهائية (هر مجدون) إلا دليل على الرغبات الكامنة لدى اطراف دولية وإقليمية عديدة بتغيير القواعد والمعادلات والتوازنات السائدة وإيجاد قواعد ومعادلات وتوازنات جديدة.

الواقع أن سقوط الدولة السورية وانتصار «جبهة النصرة» الأصولية واستلامها الحكم مصحوبة بتأييد إقليمي ودولي واسع هو انتصار مُظفَّر لليبرالية الغربية على محور ما يعرف بـ «المقاومة»، وسط «تفاؤل» بالحلم الأميركي الذي سيجلب معه البحبوحة والاستقرار، غير أن «التشاؤل» القلق سيبقى يسود المنطقة بانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا، وهو قلق مزدوج مشروع: قلق حيوي مرتبط بحياة السوريين.. وقلق وجودي، مرتبط بوجود السوريين وقيمة كينونتهم.

  إذا ما تساءلنا «هل يملك ماضينا أن يسعدنا أو يشقينا؟» سيكون جوابنا وبالأذن من الباحث المصري «زكريا إبراهيم» أننا شعب يحمل وراء ظهره «ماضيًا» ولكن ليس على شكل «مكاسب» بل على شكل «نكسات وهزائم» لا يمكن التنكر لها أو الهروب من أمامها.

فما يجري في الهلال السوري الخصيب من أقصاه إلى أقصاه، يخضع لهذا الماضي الذي لا يمكن لرؤوس الكراسي أن تستوعبه وتدرك فحواه، وتجد نفسها عجلة من عجلاته التي عليها أن تدور أو سيتم إستبدالها. وهكذا واقع كياناتنا وقد تكالبت عليها الوحوش، وارتضت أن تقوم بدور الضحية، وتستلطف الافتراس والانقراض. وقد قارب الفيلسوف والكاتب الروماني «أميل – سيوران» ذلك بالقول “لأننا فشلنا في خلق إنسانٍ يفكّر! لم يتكوّن لدينا شعب، بل تشكّل لدينا جمهور، جمهورٌ مصفق، وجمهورٌ لاعن، يصفّق مرة، ويلعن مرة! لكنه لا يفكّر”، فكل أمرٍ أراده شعبنا وجدوا مقتلهم فيه. وفي هذا العصر الجهنمي عندما اندفعوا نحو الحرية والديمقراطية قتلوهم فيها وبها قتلًا مروعًا، وعصفت بوطننا النكبات والويلات وأعاصير الملمات التي أتت على الأخضر واليابس.

***

في كتابها الموسوم بـ«كيف تبدأ الحروب الأهلية» للباحثة السياسية الأميركية «باربرا والتر» وضعت له عنوانًا فرعيًا «كيف يمكن إيقافها؟»، أرادت أن يستشهد بالكتاب في كل مكان تلوح في أفقه إمكانية حروب أهلية. وهي رأت أنه غالبًا ما تبدأ فترات الحرب الأهلية بالموتورين من أمثال عناصر الميليشيات المسلحة الذين ينقلون أعمال العنف مباشرة إلى الناس، ما يكشف «خطوط التقسيم الحضاري” حيث تمر حروب التقسيم بعمليات حدة واتساع واحتواء وتوقف، ونادرًا ما تصل إلى حل، وتبدأ هذه العمليات عادًة متوالية ولكنها غالبًا ما تتراكم، وقد تتكرر وبمجرد أن تبدأ حروب خطوط التقسيم فإنها مثل غيرها من الصراعات الطائفية يصبح لها شكلها الخاص، وتتطور بأسلوب الفعل ورد الفعل، “الهويات التي كانت في الماضي متعددة وعرضية تصبح مركزة ومتصلبة، فالصراعات الطائفية تسمى (حروب هوية) وهي تسمية ملائمة.. كما يقول السياسي الأميركي «صاموئيل هنتنجتون» في كتابه «صدام الحضارات».

وحروب الهوية ستستمر وصولًا للشرق الأوسط الجديد الذي دعا إيه رئيس وزراء «إسرائيل» بنيامين نتنياهو وكشف عن سعيه أو هدفه في حربه على غزة وعلى جنوب لبنان وسوريا في إقامته وهو ما يمهد الى عالم جديد في أمنياته غير المعلنة، والخطوة الأهم في تلك الأمنيات الضالة هو التمهيد الى انتماء «إسرائيل» دولته المصطنعة الى هذا العالم الذي يضعه نتنياهو دائما فيما توحيه إليه الأسطورة التوراتية في حدود «إسرائيل الكبرى».

وفي أخطر سياسة اعلامية مارسها ويمارسها رئيس وزراء دولة مصطنعة تعاني أزمات الوجود على كافة مستوياته ويحاول نقل تلك الأزمات الى العالم المحيط، كان قد استعرض أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (27 سبتمبر/ ايلول 2024) خارطتين للشرق الأوسط وتحدث عن الفارق بين ما وصفه بـ«خارطة اللعنة، التي تدعمها دول راعية للإرهاب مثل إيران» و«خارطة النعمة، التي تدافع عن السلام والديمقراطية وتدعمها إسرائيل»، على حد قوله.

تكشف الخارطتين عن مخطط مبيت أدواته الحروب في إعادة تشكيل المنطقة ورسم خارطة عابثة بأنظمة دول المنطقة السياسية، والهدف غير المعلن في خطابه هذا هو العبث أخيرا بحدود هذه الدول واصطناع حدودًا مسخًا بين عرقيات ومذاهب وطوائف شعوب الدول الحافة بكيانه المستعمر.

ولا تختلف الباحثة «والتر» عن رؤية «هنتنغتون ونتنياهو» في الحديث عن الحالة التي تمر بها المجتمعات وهي «الديمو سلطوية » (anocracy)، المكان الذي يكون فيه المجتمع (الدولة) منتقلة من حالة السلطوية (بأشكالها المختلفة) إلى شيء من الديمقراطية، ويدلل بدول في العالم حاولت أن تنتقل من السلطوية إلى الديمقراطية، فما لبثت أن أنتجت نوعًا من الصراع الاجتماعي يقود في الغالب إلى حرب أهلية، ومن ثم عودة السلطوية من جديد. وتقدم الباحثة العديد من الأمثلة تبدأ من إندونيسيا إلى جورجيا إلى الصرب والبوسنة والصومال والكونغو وروندا وليس انتهاءً بالعراق وسوريا أو حتى الولايات المتحدة والهند. وتلاحظ الباحثة «والتر» أنه كلما ارتفعت موجات الدمقراطية زادت احتمالات الحرب الأهلية، مثلاً في عام 1870 لا توجد دولة فيها حرب أهلية، ولكن في عام 1990 كان في العالم خمسون حربًا أهلية.

لا تحدث الحروب الأهلية في الدول الناضجة ديمقراطيًا، وأيضًا لا تحدث في الدول السلطوية، تحدث عندما يكون للمواطنين شيء من الديمقراطية مثل حق التصويت، ولكنهم يعيشون تحت قيادات لها سلطات واسعة وبعيدة عن المساءلة. ولكن كم من عناصر عدم الاستقرار نجدها أمامنا تتقافز، ولكن تركيبتنا النفسية تمنعنا من الاعتراف بمخاطرها