أكثرية الأقليات

كثر في الآونة الأخيرة استخدام مصطلح الأقليات والأكثريات في وقت حاسم بين سقوط النظام السابق وإعادة تشكيل دولة جديدة في سوريا وليس نظاما جديدا فحسب، من خلال إعادة تكوين جميع بناه الإدارية، انطلاقا من الشرطة المدنية التي كانت تسير حركة مرور السيارات، إلى جل موظفي الدولة وعناصر الجيش الوطني حتى أي مستثمر أو صناعي أو تاجر، في سابقة تجاوزت أي تجربة سابقة لها، لا في التاريخ السوري في عهود التأميم بدءا من عهد الوحدة مع مصر أيام عبد الناصر، ولا عهد التأميم السوفيتي في روسيا الذي كانت مرجعيته بكل الأحوال عائدة للدولة المركزية وخدماته لكل من يعيش على الأرض حتى لو كان زائرا، وأما في الحالة السورية الراهنة، وباستخدام مصطلح الأكثرية والأقلية يجري تجفيف جل ينابيع الحياة للطبقة الشعبية الوسطى وحتى الصغيرة، مع رهن الكبيرة منها لمنطق المساومات السلطوية، حتى تغدو إمكانية العيش الطبيعي مزعزعة وغير ممكنة للسواد الأعم من المجتمع.

مرحلة البعث:

أثار استغرابي مرة، أن اسمع هذا المصطلح وأعني فيه: الأكثرية الطائفية من قبل أحد كبار المسؤولين البعثيين المعروفين جدا عام ٢٠١٢ وكنا نناقش بشدة موضوع مسودة الدستور الذي صوتنا عليه آنذاك ب لا، وذلك في قاعة اتحاد نقابات العمال بحضور عدد من أعضاء لجنة صياغة الدستور، وحين اعترضت بشدة على الفقرة الثالثة التي تنص على أن يكون دين رئيس الدولة هو الإسلام وان هذه الفقرة لا تحدد فقط دين رئيس الدولة، بل تفتح المجال أمام نمط تفكير كلي في المجتمع يستطيع اعتبار ابن مدينة معلولا الذي يجيد إلى الآن التحدث بلغة السيد المسيح، غريبا عن ابن داريا التاريخية أيضاً ولكن أي اندونيسي مسلم سيعتبره أقرب اليه، وهذا ما قلته في النقاش، فأجابني المسؤول البعثي الذي بقي المسؤول الأول عن التفاوض مع المعارضة حتى سقوط النظام: يا أستاذ طارق انت ما بتعرف شعبك، شعبك مكون من اكثرية متطرفة بنسبة تسعين بالمئة… واجبته طبعا بأنكم ستجعلونه هكذا طالما تفكرون به بهذا الشكل..

منطق الأكثرية:

الأساس الفعلي لسيادة هذا التصنيف هو رغبة اي سلطة حاكمة في الاستئثار بكامل النفوذ لها وحلول مبدأ التعايش مع سردية تؤمن لها هذا النفوذ، حتى لو أدت في النهاية إلى تدمير سلطتها وتدمير بنية الدولة ذاتها معها بالكامل وتقع المسؤولية الأولى في هذا الموضوع على منطق النظام السابق. ففي حديث وجهت فيه رأيي للرئيس السابق بشار الأسد في اجتماع ضم الكتاب والمحللين السياسيين والإعلاميين، قلت له: لقد فشلنا في تقديم أنفسنا كدولة في مؤتمر سوتشي رغم أن الفرصة كانت سانحة أمامنا وأصرينا أن نقدم أنفسنا بذات الطريقة التي يريد الغرب أن يرانا بها لتقسيمنا، فقال كيف؟ قلت ان الغرب يرانا مجموعة من الأقليات والأكثريات وكتبت الصحف الأمريكية صراحة كما تحدث معنا المبعوثون الدوليون عن أن الشعب السوري هو مجموعة من الطوائف والعرقيات، وبالتالي فهم يبحثون عن ممثلي طوائف وعرقيات، أو معارضة وموالاة،  بينما كان أمامنا الفرصة الكبرى أن نظهر كدولة متنوعة وحيوية فيها ممثلي أحزاب وقوى مجتمع مدني ونقابات وكانوا كلهم موجودون في المؤتمر ولكن لا يوجد عقل تنظيمي استطاع إظهار ذلك، والدليل على ما أقول بأن السيد لافرنتييف ميسر المؤتمر عاد واستخدم نفس عبارات الغرب في تصنيفنا حين وصل إلى تشكيل لجنة التفاوض على الدستور.

البنية المدنية:

كل شعب تغيب عن تمثيله الأحزاب والنقابات وهيئات المجتمع المدني، ستظهر فيه العصبيات ويفتش عن منطق الغلبة، ويعيش كل مكون في حالة الذعر من الآخر وصولا إلى الاستقواء بالعدو التاريخي الذي يحدث في مرحلة سفك الدماء والاقتتال الأهلي بين أناس كانوا البارحة يتضايفون على موائد بعضهم ويقدمون أفضل ما لديهم من جود وكرم  وهذا ما شهدته بنفسي مرات عديدة ومؤخرا تحديدا بين ذات الشيوخ  والناس حولهم في السويداء الحبيبة من العشائر، في حالة لا تذكرنا سوى بمسرحية ضيعة تشرين للكاتب محمد الماغوط والفنان دريد لحام حين جعل أهل الضيعة يقتلون بعضهم بعضا بسبب قتل بقرة أبو عمشة.

اكثرية الاقليات:

كل من يعرف السوريين حق المعرفة يدرك بأن سوريا لا تتألف سوى من الاقليات، أي أن طبيعة شعبها هو من الاعتداد بالرأي وصولا إلى التمرد والوقوف بوجه منطق القبيلة، مما حدا بالرئيس السابق شكري القوتلي أن تنازل عن حكم سوريا للرئيس المصري جمال عبد الناصر مع عبارة بسيطة لكنها جوهر كل شيء الذي كان على عبد الناصر أن ينشئ لها مركز دراسات استراتيجي لتفسيرها، ومفادها: «أنت لا تعرف ماذا أخذت ياسيادة الرئيس! أنت أخذت شعباً يعتقد كلّ من فيه أنه سياسي، ويعتقد خمسون في المئة من ناسه أنهم زعماء، ويعتقد 25 فى المائة منهم أنهم أنبياء، بينما يعتقد عشرة فى المائة على الأقل أنهم آلهة». 

وهنا يظهر أننا كنا أمام رئيس للجمهورية هو شكري القوتلي الذي لم يقل لعبد الناصر شيئا لا عن طوائف ولا اعراق، بل عن أناس ذوو رؤى سياسية لدرجة ان عشرة بالمئة يعتقدون أنهم آلهة فعن أي اكثريات وأقليات تتحدثون؟؟!! وإذا تسنى لكم اليوم ان تجوعوا هذا الشعب وتسحقوه لدرجة حياة الزومبي وتسيروه إلى الاستقواء بالعدو تحت ازيز الرصاص، فاعلموا أن هذا الشعب لا تؤخذ عليه مواقف بالإجبار لأنه هو الذي اخترع أمثالا صارخة في وجه الطغيان من قبيل: الكفر بوقته تسبيح… اي انا لا أكفر وانا مؤمن أكثر منكم، ولكن الإيمان لا يستوي بالقهر.

نعم كل السوريين أقليات ولكل سوري رأيه الذي يعتد به حين يزول عنه الحيف وسيعود لينتظم بالاحزاب والتكتلات السياسية والمدنية الجامعة التي لا تصنفه وفق طائفته أو انتمائه العرقي والعائلي بل وفق رأيه السياسي، أو وفق المصالح الاجتماعية والفردية التي تمثلها التجمعات المهنية والنقابية التي تعبر عن المصالح العليا للمجتمع، ولا يمكن أن يقوم نظام سياسي يؤمن الاستقرار في البلاد اذا لم يقم على أساس الأحزاب  والمجتمع المدني والنقابات ونسف تماما كل تصنيف على أساس المذهب  والدين والعرق، وفي حال ذهبنا إلى طائف سوري يكرس حكم زعماء الطوائف الغير موجودين أصلا فإننا سنحضر البلاد نحو حمامات دماء جديدة تتحمل مسؤولية حصولها المستقبلي كل من يتجاهل صوتنا الذي يعبر عمن لا صوت لهم.

طارق ألأحمد