صار من الواضح والمجرب، أن المجتمع المعاصر، هو الصيغة الوحيدة لتوليد دولة معاصرة ذات سلطات متراقبة ومتحاسبة بواسطة المؤسسات، وسبب صلاحية المجتمع المعاصر هذه، أنه ناتج عن معلومات مفهومة لدى الإنسان العادي، تشكل له ضمانة غير مزيفة أو مواربة لحقه الأصلي والطبيعي بالحياة والكرامة، بسبب اشتراكه في العيش مع أنداده من البشر وعلى قدم المساواة في الذود وصيانة مصالح هذا العيش، دون منة أو تسامح من أحد، فالمساواة ليس سمة وراثية، بل إرادة بشرية متحررة وواعية لأساليب وطرق إحداث المصالح ورعايتها، حسب التطور الإنتاجي في المحيط والعالم. وإحداث الدولة السليمة المعافاة، لا يتم إلا بوجود هذا المجتمع المعاصر وجهوزيته لملاقاة الحياة الدنيا، بما فيها من تنافسات مصيرية، تقضي بحدوث الدولة من عدمه، فالدولة التي لا ينجبها مجتمعها، تنتجها هذه التنافسات الخارجية بغية الاستفادة من توسيع مصالحها، وتتوسل التخلف والمحافظة عليه وصيانته، بما يضمن لها البقاء كمستثمر خارجي بشكل مستمر، اعتماداً على هذه ” الدولة ” التي أنتجتها في توجيه فعالياتها لدعم الفشل الاجتماعي بكافة صوره، انطلاقاً من تفشيل التسالم كمؤسِس للتشارك في المصالح العامة وصيانتها، عبر مجموعة من المؤسسات المدنية المتحضرة كالأحزاب والنقابات والتيارات الفكرية والفنية، كوسيلة اجتماعية لتفعيل الإرادة الحرة بممارسة حريات التعبير والرأي والمعتقد، بمقدار واحد معلوم للجميع.
لم يعد زمننا الحالي يسمح بالفشل الاجتماعي الذي يمنع ولادة دولة معاصرة أصلية، فالأزمات سوف تحاصره من فورها كصورة عن الغش بمواصفات الدولة نفسها، التي في الغالب الأعم تعتبر نفسها غير مسؤولة، وتستطيع التملص من تبعات أخطائها ألتي سرعان ما تتحول إلى خطايا من الصعب تصحيحها، في ظل إنتاجها أزمات العيش الناتج عن فشل الاقتصاد والتعليم والصحة والتخطيط والخدمات، لتتحول الدولة نفسها إلى مجرد سلطة تقود التسالم إلى تظالم، والتحضر الموعود إلى همجية واقعة، والشبع إلى فاقة مستحكمة، والمنعة إلى استباحة الحدود والمياه والمحاصيل، حيث الفناء ينتظر ملوحاً بمنجله، لجز هذا النوع من الاجتماع البشري، وتركه ليعاني الويل لعدم تأسيسه لمجتمع معاصر يدافع به عن مصالحه في الحياة والكرامة، وإذا لم تصدقوا بعد فتلمسوا العبرة في الصومال والسودان وليبيا و والعراق ونصفها الغربي بلاد الشام، هل تصدقون أن هذه النتائج هي نتائج الفشل الاجتماعي العنيد المصر على عماه؟!.
يظهر الفشل الاجتماعي بعدم مقدرته على تحديد النوعية، وأولها نوعية الدولة التي يدفع لها الضرائب والمكوس لكي تقوم على إدارته، بعقد واضح ومعلن، فالمجتمع الفاشل لا يستطيع تحديد نوعية وشروط اجتماعه وتنظيمها، في دستور منضّج ترعى ولادته القوى الاجتماعية المدنية المنظمة والعلنية، وتلاحق تطوره وتطويره حسب المستجدات الحقوقية والتكنولوجية، وإذا “المجتمع” لا يقوى على إنتاج هذه القوى، فلن يقوى على إنتاج دولة أصلية، تديره وترعى مصالحه، ولن يقوى على تحمل التحضر في منتجاته الإبداعية، بل لن يقوى على تحمل حريته نفسها، فيتركها لمن يستطيع قتله، كعربون إخلاص لمن أعطي السيف.
في الفشل الاجتماعي تبدو الفنون أولى الضحايا، فبقمع الفن يصبح للتحضر تعريف آخر، والفن كما هو في الواقع هو المدرسة الكبرى لتعلم التحضر، والارتقاء به، لأنه لا يثبت مع تطور أدوات العيش وعوامل ممارسة الحياة، فالفن هو المنارة الكبرى للمجتمع الأصلي الذي يعتزم البقاء والاستمرار، وبدونه تخضع الحياة للاختناق البطيء، في عملية مقرفة للالتهام الذات، استجابة لفشلها برعاية الفن وتلقي عوائده، ففي انعدام الفن هناك انعدام للمعنى، وهذا الانعدام هو تعبير حقيقي ( ليس مجازياً) عن الانتحار الاجتماعي، فمجتمع بلا فن هو مجتمع غير قادر على إنتاج الابتكار والإبداع والبهجة والمتعة والسعادة، وهي المعاني الحقيقية للاستمرار في العيش طلباً للحياة بمعناها الإنساني. والفن هو القوة الناعمة التي تشهر الهوية، يقابلها العنف في عملية الإشهار هذه، وشتان بين ردود أفعال الآخر بين هذه وتلك، فواحدة تستجلب الاحترام والأخرى تستجلب العداء والاحتقار.
الاندماج هو أعلى القيم البشرية قاطبة، والاندماج هو تعبير حقوقي، يعني إعادة إنتاج المجتمع لنفسه بشكل مستمر ومتراكب، فليس هناك سعة من وقت الحياة للتظالم والتعانف، بل لتكريس المساواة على سبيل العطاء والأخذ من ولمباهج الحياة التي لا يمتلك بنو البشر غيرها، لذلك يظهر أن حدوث المجتمع ودولته، هو رعاية للبهجة التي يستحقها الإنسان نظير إنتاجه، مهما كان نوع البهجة التي يرتضيها.
كل البلدان ابتكرت مجتمعاتها، ووضعتها في محل الفعل والإنتاج، معلنة عقودها الاجتماعية المكتوبة بلغة الحاضر والمستقبل، فالمجتمع الأصلي ينتج من أجل مستقبله وليس من أجل ماضيه، وينتج لإعلاء قيمة ومعنى إنسانه الأرضي، وليس من أجل الأفكار والأيديولوجيات، والفشل الاجتماعي، هو ذاك التفكير الذي لا يلحظ المستقبل كهدف لتحركاته، كما لا يلحظ تجارب الآخرين في رعايتهم لمستقبل مجتمعاتهم، ولا يتعلم كيفية الاستثمار بالإنسان والزمن، حيث لا يبقى إلا الجهل مجالاً للاستثمار، الجهل ومصائبه الذي يقود العيش إلى عكس الحياة، وهذا باهظ الثمن، إذ لا يقل عن الفناء.
لا يصدقن أحدٌ، أن مجتمعاً يفشل في تحقيق شروط حدوثه، ينجح في أي شيء، إلا في إطلاق بدائياته الوحشية للتنازع على مجرد العيش، المحفوف بكافة مخاطر ما قبل المجتمع، فالمجتمع هو ذاك المعنى من التشارك في صيانة الحياة والكرامة الإنسانية، وهذا الكلام لم يعد كلاماً خيرياً أو نظرياً، بل هو مطبق وممارس في الكثير من بلدان العالم، ولم يعد تطبيقها من المهارة بشيء، فقد طبقت ومورست والعالم اليوم يبحث عن الأرقى ليحصل عليه ويمارسه.

