ليس الحديث عن «ممر داوود» وليد الساعة، بل هو مشروع قديم تعود جذوره إلى مخططات صهيونية قديمة ترمي إلى التوسع في المنطقة، ارتباطاً بمفهوم «إسرائيل الكبرى». الكيان الصهيوني يعمل خطوة خطوة وبشكل مدروس لتحقيق هذا المشروع. فمن السيطرة على خمس نقاط استراتيجية في لبنان، إلى توغله داخل الأراضي السورية وتثبيت وجوده العسكري في الجولان والقنيطرة ودرعا، ما يثبت أن خطته ممنهجة في سبيل تحقيق تمدد جغرافي استراتيجي.
مشروع «ممر داود» الذي يسعى العدو لتنفيذه يهدف إلى تقسيم سوريا عبر ربط الأراضي المحتلة بالمناطق الكردية وحقول النفط بهدف الوصول إلى نهر الفرات. وفي حال قيض لهذا المشروع أن يتحقق، سيكون عاملاً في قطع أوصال بلاد الشام، ويمهّد لتفتيت هذه الكيانات ويجعل من الكيان الصهيوني لا منافس له في المنطقة. فضلاً عن ذلك، يهدف هذا المشروع إلى تحقيق عدة أهداف استراتيجية، منها فك عزلة العدو الجغرافية، وتعزيز حركته التجارية، والسيطرة على موارد طبيعية مهمة، بالإضافة إلى تعزيز نفوذه الإقليمي.
فمنذ تأسيس الحركة الصهيونية راودت بعض قادتها تصورات عن حدود توراتية تمتد من نهر النيل إلى نهر الفرات. وخلال القرن الماضي ظهرت مخططات لتقسيم الدول المجاورة لتحقيق هذه الرؤية، منها خطة سرية عام 1970 سعت إلى إقامة كيان في مناطق الدروز في جنوب سوريا لتكون حاجزاً بين «اسرائيل» والعالم العربي. أحبطت تلك الخطة بعد كشفها بتعاون قيادات درزية وعربية آنذاك. ولا يغفل المنظّرون والمؤرخون والكتّاب والمسؤولون الصهاينة في كل مناسبة وظرف مشروع «ممر داوود». في عام 1982 طرح باحثون اسرائيليون ومنهم كاتب «إسرائيلي» يُدعى، عوديد ينون، خطة تقود إلى تقسيم وتفكيك دول المنطقة إلى دويلات وكيانات صغيرة تفرّقها الأعراق والأديان والطوائف بما في ذلك سوريا وتقسيمها إلى كيانات طائفية ضعيفة يسهل التعامل معها. ويومها عُرفت الخطة ب «خطة ينون». الخطة ذاتها أعاد برنارد لويس التذكير بها حيث أكّد على أن هذا الحل سيكون الأنسب للكيان، وضمان أمنه واستقراره، وهذه الدول التي يفرّقها الدين والعرق سيجمعها تعاون اقتصادي مركزه «إسرائيل» وفق خطة شمعون بيريز، الرئيس الأسبق للكيان، التي طرحها في كتابه الصادر عام 1993، وحمل عنوان «الشرق الأوسط الجديد». وانطلاقا «من هذه الأفكار، ولد مشروع يسهم بربط هذه الكيانات، عُرف باسم» ممر داوود«، وهو طريق اقتصادي بالدرجة الأولى سيخرج من الكيان الصهيوني حتى يحطّ على ضفاف نهر الفرات، وسيوحّد الدول التي من المفترض أن فرّقها الدين والعرق. وبحسب الخريطة، ستكون نقطة الانطلاق من الجولان الذي يحتلّه الكيان ويعتبره جزءاً من أراضيه، وصولاً الى مدينة التنف الواقعة في مثلث الحدود السورية-الأردنية-العراقية، وينتهي عند معبر البوكمال وهو المعبر الذي يفصل سوريا عن العراق أي البوابة بين الطرفين.
«ممر داوود» هو شريط جغرافي ضيق يبدأ من مرتفعات الجولان المحتلة في الجنوب الغربي ويمر بالمحافظات السورية الجنوبية المحاذية للكيان الصهيوني والأردن وهي القنيطرة ودرعا. ثم يتسع شرقاً عبر السويداء في جبل حوران ويدخل البادية السورية باتجاه معبر التنف الاستراتيجي على الحدود السورية العراقية الاردنية. وتعدّ منطقة التنف نقطة ارتكاز مهمة إذ تنتشر فيها قاعدة عسكرية أميركية وتسيطر على طرق المواصلات بين سوريا والعراق. بعد التنف يمتد الممر شمال شرق عبر محافظة دير الزور وصولاً إلى نهر الفرات حيث مناطق سيطرة ما يعرف بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) شرق النهر. وفي ضوء هذه الظروف يسعى المخطط لربط هذا الشريان بأقليم كردستان العراق عبر الحدود السورية-العراقية.
«الممر» المنشود سيشق سوريا إلى نصفين ويفصل مناطق سيطرة الحكومة الجديدة في الغرب والشمال عن مناطق الشرق والجنوب الغنية بالنفط والموارد الطبيعية.
ثمة تحد هام ربما يحول دون تنفيذ هذا المشروع إذ تقدّر تقارير استراتيجية أن تنفيذ الممر يحتاج مليارات الدولارات لإقامة البنية التحتية وتأمينها. ويأتي هذا في وقت تعاني فيه «اسرائيل» ضغوطاً اقتصادية نتيجة حرب غزة الطويلة وآثارها، كما أن جيش العدو منهك من تلك الحرب التي تكبد جراءها خسائر ويواجه نقصاً في الذخائر والمعدات، ومن ثم فإن الدفع بقوات كافية لتامين ممر بطول مئات الكيلومترات مع دعم جوي ودفاعي مستمر قد يفوق طاقة هذا الجيش حالياً. إلا أنه لا يمكن المراهنة على عدم تأمين تكاليف تحقيق هذا المشروع ونحن نعلم أن الولايات المتحدة الأميركية جاهزة لتقديم كافة أنواع الدعم للكيان المحتل. وهذا ما عبّر عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب حين صرّح في شهر آب من عام 2024 «إن مساحة إسرائيل» تبدو صغيرة على الخارطة، ولطالما فكّرتُ كيف يمكن توسيعها. من هنا فإن مشروع «ممر داوود» يكرس التغيير الديمغرافي والجغرافي في المنطقة وتحقيق التوسع الصهيوني والسيطرة على مناطق واسعة.
الخبراء من جهتهم يلقون الضوء على أن لمشروع «ممر داوود» أهمية قصوى للكيان الصهيوني على المستوى الاقتصادي إذ سيتضمن هذا الطريق خطاً لنقل النفط من المناطق التي تسيطر عليها القوات الكردية المسلّحة المعروفة باسم قوات «قسد»، ويصل إلى نهر الفرات. ومن جهة أخرى فإن الصراع على المياه هو في صلب الصراعات في المنطقة خصوصاً الكيان الصهيوني الساعي دوماً إلى تأمين مستقبله من المياه، ونهر الفرات سيكون أحد مصادره.
أما على المستوى التجاري، فمن شأن هذا المشروع أن يؤمّن تبادل السلع والبضائع مع الدول الجديدة المفترضة، بل وحتى عمق آسيا أي تركيا وأذربيجان وهي دول بينها وبين تل أبيب تبادل تجاري كبير. وعلى المستوى الأمني سيربط هذا «الممر» كيان العدو بالفرات، ويطوّق الحدود العراقية، ويعزز من قوته العسكرية، فضلاً عن توسيع دوره الإقليمي، بصورة تشكّل ضغطاً كبيراً على العراق ثم تركيا.
والأهم من ذلك سيضع هذا «الممر» الكيان بموقع قوي للمفاوضة على نصيبٍ من المشروع الأكبر المرتقب أي مشروع «خط الغاز القطري لأوروبا» والذي يحتاج بالضرورة لإكمال طريقه من قطر لتركيا أن يقطع «ممر داوود»، ما يعني أن الكيان يريد نصيباً ويريد موقعاً يجعله «قلب المنطقة» الذي يريد إعادة ترتيبها لتكون شرق أوسط جديد تكون تل أبيب مركزها.

