فتوى السلاطين

في حين تتكالب الكوارث على غزه وأهلها من قتل وإحراق وتدمير وصولاً إلى الجوع القاتل الذي اصبح مسالة ضمير عالمي وسط غياب عربي إسلامي إبراهيمي من الدرجة الخطيرة، يتفاجأ المواطن الحزين بتسجيل نشرته مواقع التواصل الاجتماعي بالصوت والصورة لإمام الحرم المكي الشيخ عبد الرحمن السديس يقترح فيه دعم غزه وصمود أهلها ،ولكن مقتصرا على الدعاء لهم والتضرع إلى الله من أجلهم .وجاء في الكلام المسجل أن الجوع حمية صحية وفرصة ذهبية لتهذيب الجسد وان على المواطن الصالح المؤمن أن يلتزم بتوجيهات ولي الأمر تجاه هذه المسالة، ويدع الحديث عن التبرعات والأشياء المادية، فيما يجب أن يكون تركيزه على  الروحانيات والدعاء والتضرع.

سرعان ما جاءت محاولة النفي أو التشكيك بمصداقية هذا التسجيل المذكور من قبل بعض وسائل الإعلام السعودية والإبراهيمية التي ادعت أن ما نشر غير دقيق وان هنالك جزء مما ورد على لسان الشيخ عبد الرحمن السديس قد تم التلاعب به بواسطة الطرق الإلكترونية الحديثة المسماة بالذكاء الصناعي.

وبما أننا لن ندخل في سجال حول ما إذا كان التسجيل صحيحاً أم مضافاً إليه فلا نملك الخبرة أو الوسائل، ولا نستطيع تأكيد ما ورد في التسجيل المسرب لكن يمكننا أن نقارن الكلام الوارد مع ما يجري على ارض الواقع ونقارنه به لنرى هل الممارسة الفعلية لإمام الحرم المكي و لولي الأمر تتطابق مع ما ورد، لنعرف في النهاية اذا كان التسجيل صحيحاً أم مدبلجاً.

منذ السابع من تشرين أول 2023 نظرت السعودية إلى ما جرى صبيحة ذلك اليوم المجيد لا على انه عمل بطولي ونضال وطني قام به شعب محتل ومحاصر وضعيف الإمكانيات استطاع  أن يحطم صورة العدو القوي وان يحرك المياه الراكدة وان يعيد المكانة للمسالة الفلسطينية التي كانت آخذة بالتآكل، وإنما نظرت إلى ذلك اليوم باعتباره مؤامرة وعملا خبيثا من أعمال محور الشر (المقاومة) يهدف إلى عرقلة عملية تطبيع السعودية مع الإسرائيلي فالتطبيق المعلن بين السعودية ودولة الاحتلال وان تأخر قليلا عن تطويعه  كما الأمارات والبحرين إلا انه قائم بالواقع وان كان غير معلن وهو حجر الزاوية في استراتيجية الدولة ووري الأمر فيها وهو القادر برايهم على نقل السعودية إلى مرحلة اقتصادية وتكنولوجية متقدمة، ومن جانب آخر فهو مهم في تطوير علاقاتها مع واشنطن وكسب رضاها ومن اجل دعم مشروع تسيدها على موقع الزعامة العربي والإسلامي لذلك رأت منذ البداية أن عملية طوفان الأقصى ليس إلا قطعاً للطريق على تطبيعها وبالتالي على عرقلة مسيرتها نحو التقدم والزعامة.

لذلك دأبت وسائل الإعلام السعودية من صحف وفضائيات على استخدام عبارات بدت لحسني النية محايدة ولمن أراد أن يضعها في مكانها الصحيح مضللة متامرة فالإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال هي أعمال عنف لا يحددوا مصدره، والمجاعة التي تفتك بالأبرياء والمساكين، ويتحمل مسؤولية قتلهم وتجويعهم  من ارتكب «حماقة العمل» في صبيحة السابع من تشرين أول 2023 لا الاحتلال و جيشه وداعميه عالمياً و عربياً، وقد تجاهلت وسائل الإعلام تلك صمود اهل غزة والتفافهم حول المقاومة لا بل واعتبرتهم اسرى لدى المقاومة التي تتخذ منهم دروعا بشرية، فيما اعتبرت الأسرى (الإسرائيليين) الذين تحتجزهم المقاومة مختطفين و تشعر بالتضامن مع أهاليهم، تستضيف الفضائيات هذه المتحدث باسم جيش الاحتلال وتمنحه الوقت اللازم للحديث والكذب ووصف سلوك المقاومة بالتوحش والنازية وتصوير جيش الاحتلال باعتباره الجيش الأكثر أخلاقية بين جيوش العالم فيما تشكك وسائل الأعلام هذه في عملية قصف المستشفى المعمداني الذي استشهد جراؤه قرابة 500 شهيد ثم تعود لتبرر عملية القصف بالقول أن قيادة المقاومة تتخذ من المستشفيات أماكن لإدارة عملياتها.

ولا زالت المملكة العربية السعودية تتحدث عن مبادرة السلام العربية في بيروت والتي كان يدور محورها حول فكرة حل الدولتين والسلام الشامل مقابل التطبيع الشامل وهذا ما أعادت ترداده في الأيام الماضية على لسان وزير خارجيتها في مؤتمر نيويورك حيث قدمت تنازلا كبيرا عندما وصفت الاحتلال والمقاومة على انهما على ذات المستوى من المسؤولية وطالبت بإطلاق سراح من تحتجزه المقاومة فيما لم تأت على ذكر الألاف من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

رفض مؤتمر نيويورك التهجير القصري، ولكن يبدو لا باس في التهجير الطوعي في ظل الجوع والقتل، والاهم من كل ذلك أن الغطاء الممنوح (لإسرائيل) في الضفة الغربية لم يبقي مكانا غرب نهر الأردن يتسع لإقامة دولة، حتى لو كانت بالشكل فقط، فيما يقول السفير الأمريكي في تل أبيب أن لا شيء لدى حكومته يتحدث عن أي شكل من إشكال الدولة غرب نهر الأردن وأضاف أن من الممكن إقامة دولة للفلسطينيين، ولكن خارج فلسطين.

عود على بدء، بناء على جميع المعطيات يمكن القول أن ما ورد في التسجيل المسرب على لسان الشيخ السديس هو صحيح سواء أقال ذلك أم لم يقل.