الحلقة ثانية – هل للديمقراطية أنياب؟
صراع الشعوب مع ذاتها ليس ظاهرة استثنائية تحصل لدى شعب دون شعوب أخرى أو لدى أمة دون سواها، إنما هو حالة طبيعية تنشأ بأسباب ومسببات. هذا الصراع الذاتي له أسس ومحفزات تتباين بتباين الظروف والأحوال ولا يقتصر على نظام سياسي معين دون غيره أو على وضع اجتماعي خاص أو على ثقافة، أو قومية أو دين أو موقع جغرافي أو تراث تأريخي أو غير ذلك، إنما هو صراع باق مع بقاء الطبيعة البشرية المجبولة على محدودية التفكير ومحدودية الفعل في تطبيق المثل العليا والأخلاق الفاضلة.
بغض النظر عن طبيعة نظام الدولة/ السياسي المتبع سواء أكان ديمقراطيًا أو دكتاتوريًا شموليًا، فقد ينشأ صراع الشعب الواحد مع ذاته إن توفرت أسباب هذا الصراع وتوفرت محفزاته. أمثلة هذه الصراعات كثيرة وواضحة سواء أكانت صراعات غدت في ذمة التاريخ القديم والحديث أو صراعات لا تزال قائمة في واقع نشهده في يومنا هذا.
في سياق الصراعات الذاتية التي حصلت في الدول الأوربية المتحضرة على سبيل المثال، فقد تحولت يوغسلافيا السابقة إلى جمهوريات ودول بعد حروب أهلية طاحنة قامت على أسس قومية ولغوية ودينية وغيرها، كما أضحت دولة تشيكوسلوفاكيا السابقة دولتين هما جمهورية التشيك وجمهورية السلوفاك على أساس التباين العرقي، كذلك هو حال دول الإتحاد السوفيتي السابق التي تفككت واستقلت.
بينما سعى إقليم الباسك الإسباني إلى الانفصال عن أسبانيا لأسباب عرقية لغوية، واستخدم جيش أيرلندا السري العنف كي يؤثر على حكومة بريطانيا المركزية من أجل انفصال أيرلندا الشمالية عن بريطانيا العظمى تحت وطأة التأثيرات المذهبية، في حين تنوي كندا الفرنسية «كيبيك» الانفصال عن كندا الانكليزية بسبب التباين اللغوي.
***
إذا كان القول الشائع يذهب إلى أن «الديمقراطية لها أنياب» فإننا نعيش واقعًا ينطق بأن الليبرالية لها مخالب وحوافر وألسنة أحدّ من سيوف البلطجة وقلوب أقسى من الجرانيت.
إننا نعيش نوعًا من الليبرالية المتوحشة لا يستشعر أصحابها وخزًا لضمائرهم وهم يوفرون الغطاء السياسي والأخلاقي لقرارات الحكومة الانتقالية القائمة في دمشق بعد سقوط نظام «الأسد في 8 ديسمبر 2024»، مع محاولات الرئيس الآنتقالي “أحمد الشرع” اليوم، «استغفال ذاكرة المجتمع، بانه كان لا يعرف بالصراع الطائفي!»، وعلى الجانب الآخر، تحاول الحكومات الغربية وعلى قدم وساق، وبنفس القدر الذي يبذله «الشرع» وهيئة تحريره الشامية في تضليل العالم حول الحكام الجدد في دمشق، ولا تزال الحكومات العالمية تحاول تعويمه وإضفاء الشرعية عليه. بل يذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك حين يتهم الأجهزة الأمنية بالتراخي لأنها تصمت على هؤلاء الأوغاد الذين اقتحموا كنيسة مار إلياس في 22 حزيران 2025 ، الواقعة في حي دويلعة في مدينة دمشق في أثناء خدمة القداس، أدى إلى مقتل أكثر من 25 مصلٍ وإصابة قرابة 60 آخرين، وتسبب في أضرار مادية كبيرة داخل الكنيسة والمباني المحيطة بها، وقد زادت احتمالات الرعاة الإقليميين (تركيا ـ قطر «إسرائيل»)، والدوليين (أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) للقتل والتدمير الممنهج للمجتمع من قبل مصاصي الدماء المختبئين خلف تهويماتهم الفكرية/ الدينية الفاسدة.
هكذا تتحول السلطة السياسية في زمن العولمة، أو التوتاليتارية الليبرالية الجديدة إلى مجرد خادم أو مجرد نادل في مقهى الأسواق المالية الأميركية التي آلت إليها السيادة الفعلية على العالم، لأن الحاكم الفعلي في عالم اليوم، هو الرأسمال المالي وتوتاليتارية الأسواق، وتوتاليتارية تقنيات الإعلام الجماهيري. ولا بد للمرء من أن يكون في غاية السذاجة كي يعتقد صدقًا أن واشنطن تحولت اليوم إلى قوة تعمل على إشاعة الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير. حيث تثبت الوقائع كل يوم أن النفط هو في رأس سلم القيم التي تهتدي بها الإدارات الأميركية المتعاقبة، وأن تلك الأولوية تجد تعبيرًا عنها في استمرار التعاون المتميز بين واشنطن من جهة، ومعظم الدكتاتوريات وأبرز القوى الظلامية من الجهة الأخرى. بهدف استمرار غرق مجتمعاتنا في ردتها المرعبة نحو همجية تحفزها همجية التسلط الغربي.
لقد اعتمد المخلوق البشري على واحدة من أشد الوسائل للحفاظ على وجوده ألا وهي إلغاء الآخر وقتله لامتصاص القوة من فناء الجسد المقابل أو مكوناته الروحية والعقائدية أو المادية. وقد كان لفكرة تُصوِّر تطور الحضارة الأوروبية بالعُنف بدلًا من العقد الاجتماعي أثر كبير في فهم تاريخ التحديث السياسي الغربي وما نتج عنه من ظواهر داخل أوروبا أو عبر العالم، وأبرزها ظاهرة الإنسان المنبوذ أو الإنسان المُستباح، وهي نتاج حصري للحضارة الغربية المعاصرة، «إن كل المواطنين في العصر الحديث يظهرون افتراضيًا منبوذين مُستباحين داخل حالة من الحظر السياسي، وهنا تبدأ المرحلة التالية من السياسة» بحسب الفيلسوف الإيطالي «جورجيو أغا مبين» في كتابه المهم “الإنسان المستباح”
ولكن ما هو أصل كل الشرور؟
رأى الرسول بولس – في إحدى رسائله المشهورة إلى تيموثاوس – أنَّ المال أصل الشر. في حين قال عالم الأحياء «ريتشارد دوكينز» – بعد ألفي عام «إنَّ الدين هو أصل الشرور». وذهب الفيلسوف «توماس هوبز» إلى ما هو أبعد من ذلك؛ حيث قال: «لم يكن المال أو الدين هو ما أفسدنا، بل إنَّ الطبيعة البشرية هي مصدر مشاكلنا». ادَّعى هوبز أنه بدون هيمنة قوية تحكمنا، سنسفك دماء بعضنا بعضًا. ومن ثم ستكون الحياة في الوضع الطبيعي «قصيرة ووحشية وكريهة». ولعل أفضل توصيف لهذا الواقع ما قاله الفيلسوف جان جاك روسو: «نحن ـ المتحضرين – لسنا نماذج صالحة للطبيعة البشرية».
ولكن إذا كان الأخرون قد حددوا أسباب سقوط ونشوء الدول بعوامل الاقتصاد وإدارة المعرفة والإنتاج في الدورة الاقتصادية الرأسمالية وتأثيراتها على المواطن في الرفاهية.. فإن «بول كندي»، الفيلسوف الأميركي المعروف، قدم نموذجًا آخر للمشرع الأميركي للقرن الحادي والعشرين فحوى الاستعداد مع خصوم اقتصاديين والذي كان محور مناقشات مجموعة من مراكز التفكير وبيوت الخبرة الأميركية لوضع الاستراتيجية الأميركية للقرن الحادي والعشرون باعتبار ان سقوط جدار برلين أنهى القرن العشرين أميركيًا!!
فحوى الاستعداد الدي دعا اليه «كندي» هو القدرة على التنافس الاستراتيجي مع خصوم اقتصاديًا. وتصفية مواقع جغرافية عسكريًا بكونها نقاط تهديد للأمن القومي الأميركي ومنه الأمن الإسرائيلي… فيكون التأثير السلبي الصهيوني نموذجًا للحروب بالوكالة وتسويق الاضاليل وتجديد الجاهلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لديمومة ذات الثغرات التي جاءت في مقدمة أبن خلدون الذي كان أول من اشار إلى (عمران) الحكم مقابل (سقوطه) في مقدمته الشهيرة.. فيما بات العامل الداخلي حالة توظيف دولية في إسقاط الدول هكذا سقطت الدولة العباسية بالغزو المغولي ثم سقطت الدولة الصفوية بالغزو العثماني المباشر ثم سقطت الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى… وها هي دول الهلال الخصيب تسقط تباعًا أمام جحافل الميليشيات المذهبية، ورجاحة عقل «أخوان الشياطين» لا تزال تناقش الخطر الإيراني!
غدًا ستنتهي سَكْرة التخلص من الدكتاتورية، وتتضح للسوريين ملامح العبودية الجديدة للهيمنة الأميركية ـ الإسرائيلية ـ الإخوانية، فهل سيكون هذا الوجه الكالح البغيض هو وجه سوريا الحديث؟

