محاكمة الزعيم الصوّرية (نهار7 تموز1949)

أجري الحوار: سامي بري

كان المدعي العام يحقق مع نفر من الرفقاء الموقوفين والذين جلبوا من بيوتهم بتهمة العصيان المسلح على الدولة. وقبل أن ينتصف نهار السابع من تموز، إذا بمخابرة تلفونية تقرع في هاتف سجن الرمل من سيار الدرك في بيروت، تطلب حضور يوسف شربل على جناح السرعة.

فلملم المدعي العام أوراقه وطلب من إبراهيم بري مرافقته إلى قيادة درك بيروت لأمر هام. فوضع إبراهيم بري قلم الحبر في جيبه ودلف مع رئيسه إلى إحدى السيارات المنتظرة ومن سجن الرمل راحت السيارة تنهب الأرض والشوارع نهبا لتصل بعد دقائق معدودة إلى قيادة الدرك. وهناك في قيادة الدرك شاهد شخصية لم يكن رآها إبراهيم بري من قبل ولا عرفها، تخرج محاطة بالجنود والمستنطقين والضباط. وسأل كاتب المحكمة عنها فقيل له أنه أنطون سعاده العاصي على الدولة. وقد نقل سعاده بحراسة مشددة إلى المحكمة العسكرية بعدها حالا، حيث طلب شربل مرة ثانية من إبراهيم بري أن يرافقه إلى المحكمة.

عيناه أضاءتا ظلمة المكان

وبعد الساعة الثانية عشرة بقليل وصل إبراهيم بري إلى قاعة المحكمة العسكرية وجلس مقابل المدعي العام شربل ورئيس المحكمة المقدم أنور كرم. وفي أقل من دقيقة أدخل الزعيم قاعة المحكمة محاطا بالحرس والرشاشات والبنادق. لقد كان يرتدي بدلة بنية فاتحة جيد الهندام لا بل ممتازة، جبهته العريضة بدت تغطي الأعين على اتساعها، ابتسامته المهذبة كانت تتحدى وحشية الذئاب الذين تحلقوه فاغري الاشداق والأنياب. عيناه كانتا تضيئان ظلمة المكان ووحشته.

وبعد أن هدأ المكان من قرقعات أحذية الجنود واستقر كل في مكانه بادرت المحكمة وسألت سعاده هل ترغب في تعيين محام، فأجاب نعم وسمى اميل لحود. وفي أقل من لمح البصر أدخل إميل لحود قاعة المحكمة وأعلم برغبة سعاده في توليه الدفاع عنه، فقبل لحود، ولكنه طلب من المحكمة إمهاله أسبوعاً لدراسة القضية، ملفات ووقائع. فتشاورت المحكمة هنيهة لتعود وترد على طلب محامي الدفاع رافضة الأسبوع المطلوب. فعاد لحود وطلب ثلاثة أيام. فعادت المحكمة بعد التشاور ورفضت المهلة كذلك. عندها أدرك لحود لغز المحكمة وعلم أن مصير الرجل مقرر سلفا بدفاع أو بدونه فاعتذر عن قبول مهمة الدفاع الصوري الذي تريده المحكمة، وخرج من القاعة وهو يقول: « آسف،

الزعيم يستطيع أن يدافع عن نفسه ». عندها طلبت المحكمة من أحد الضباط أن يدافع عن الزعيم مراعاة لشكل القوانين المرعية الاجراء شكلا.

أنا المسؤول الوحيد

وبعدها أعلن بدء المحاكمة، يقول إبراهيم بري عندها أخرج جميع المدنيين باستثناء الصحفيين الذين سمح لهم التقاط الصور التذكارية حيث توجهت العدسات كلها إلى سعاده وهو خلف القفص الحديدي يبتسم ابتسامة المطمئن وكأنه وحده غير معني بأحداث القاعة، أو كأنه وحده المراقب من خارج هذا العالم نزل قاعة المحكمة لينظر كيف يصنعون العدالة في محكمة حوت كل شيء عدا العدالة. وأخذت الأسئلة تنهار على سعاده كالسيل وكلها تنبع من أبجدية الموت والإعدام. وكان سعاده يجيب عليها برباطة جأش وبشجاعة نادرة. أسئلة تتبعها أسئلة لا يمكن للذاكرة أن تحتفظ منها بعد عشرات السنين، حدثنا إبراهيم بري، إلا سؤالا ما زال يرن في خاطره إلى الآن لأن سعاده أجاب عليه جوابا نشر الهيبة والتهيب بين كل الحضور قضاة كانوا أم حراسا. سأله رئيس المحكمة عن سبب إعلان العصيان على الحكومة فرد سعاده قائلاً بصوت واضح لا تراجع أو مساومة به: « لقد أهين الحزب أيها السادة لذا أعلن الثورة ليرد على الإهانة ».

رئيس المحكمة: لماذا هل إذا أهين الحزب تعلن الثورة على الدولة وتقتل رجالها في ثورتك؟

سعاده: قلت أهين الحزب وعندما يهان الحزب ليس أمامه إلا رد الإهانة بالثورة وفي الثورة تقع ضحايا من الفريقين في جميع الأحيان. وأردف سعاده قائلاً إنه المسؤول الوحيد عن إعطاء الأمر بالثورة.

تحرير المواطن اللبناني من الطائفية

ثم انتقلت المحكمة لسؤال سعاده عن أهداف حزبه على الصعيد اللبناني فكان رد سعاده الواضح الصريح على هذا هو تقريره أن لبنان جزء من سوريا الطبيعية، ولكي يقنع اللبنانيون بهذه الحقيقة هناك عقبة أساسية تحول بينهم وبين هذه القناعة وهي الطائفية. وعليه فأن غاية الحزب في تحرير المواطن اللبناني من الطائفية ليست من أجل كسب الدعاية للحزب بأنه حزب غير طائفي كشأن بعض الجهات التي ترفع شعار محاربة الطائفية، بل هو يصب في صميم الشأن القومي. إذ عندما تزول الطائفية حقا أجاب سعاده المحكمة، عندها تصبح علاقة لبنان القومية بسوريا علاقة طبيعية خارج إطار الاستهجان أو الاتهام. وكانت المحكمة كلما رأت أن سعاده يخاطبها من فوق حيث لا يمكن لمنطقها أن يطاله تعود وتحاول حصر القضية في إطارها الجنائي،« عصيان مسلح على الدولة»، « إطلاق النار على عناصر قوى الأمن ومهاجمة المخافر، اقتناء السلاح ». وكان سعاده مقابل هذه الزاوية التي تريد المحكمة حصره ضمنها، كان دائماً يتخندق في الخندق القومي، ويربط كل سؤال وكل حادثة وكل تهمة بالخطر الصهيوني وبمصلحة القضية القومية، وكانت فلسطين والخطر اليهودي عليها إحدى أبرز نقاط دفاعه وتوضيحاته للأحداث التي رافقت نشوء الحزب من بدايته حتى وقوف زعيمه في تلك اللحظة في قاعة المحكمة العسكرية في بيروت يواجه حكم الاغتيال السياسي الذي أوكل لحكومة رياض الصلح أمر تنفيذه من قبل أمناء اتفاقية سايكس بيكو وشركائها.

ملعقتان من المعكرونة وثلاثة من اللبن

وعندما قاربت الساعة الثالثة ظهرا، إذ بسعاده فجأة يوقف دولاب المحاكمة عن الدوران، ويطلب من المحكمة شيئا من الطعام. وتفرست المحكمة بأوجه أعضائها كأنما فاجأها طلب سعادة، عندها طلبت المحكمة من أحد الرتباء في الشرطة، وكان بيته قريبا من المحكمة، أن يحضر لسعاده من حواضر بيته. فأسرع الرتيب إلى بيته حيث أحضر بعد دقائق صحنا من المعكرونة وكوبا من اللبن. فوضع الطعام أمام سعاده الذي استأذن المحكمة في الأكل، وتناول ملعقتين من المعكرونة أردفهما بثلاث معالق من اللبن في الوقت الذي كانت به هيئة المحكمة بأسرها قضاة وحراسا وجدرانا تراقب الرجل كيف يأكل، كأنها لم تكن شاهدت قبلاً رجلاً يأكل. وبعد أن احتسى سعاده ملعقة اللبن الثالثة طلب رفع الطعام فرفع حالاً ليفاجئ سعاده المحكمة بمتابعة جوابه على السؤال الأخير الذي كانت المحكمة قد طرحته عليه قبل طلبه منها الطعام.

وهنا يقول إبراهيم بري أنه بعد تعرفه العملي على شخصية الزعيم واكتشافه بها شخصية لم يعرف من قبل مثيلا لها أخذ يحس بالخوف والخشية على مصير الرجل. فكان أن التفت إلى رئيس الشعبة الثانية الملازم أول حصواني وسأله هل إذا حكم الزعيم بالإعدام سينفذ به حالا أو يأخذ الحكم تنفيذه وقتا تستلزمه الشكليات القانونية. فكان رد الملازم حصواني لا، سينفذ به الحكم حالا. لكن إبراهيم اعتقد أنه في لبنان، لبنان المساومة ولبنان الواسطة، ولا يمكن أن يحدث أمر من هذا القبيل فعاد إلى سعاده يتابع استماع طريقته في الرد على أسئلة المحكمة التي فرغت جعبتها من تلك الأسئلة الحاقدة الموتورة، ووقف بعدها المدعي العام يوسف شربل ليباشر مرافعته الاتهامية بقضية سعاده حيث ابتدر المحكمة شعرا لصفي الدين الحلبي « ان الزرازير لما قام قائمها توهمت أنها صارت شواهينا »……ثم ختم مرافعته مطالبا بإنزال عقوبة الإعدام بسعاده.

الخوف من الحقيقة

وفي اثناء مرافعة يوسف شربل كان الزعيم ينظر اليه ويهز رأسه، ثم يدون على وريقة أهم نقاط حقد النيابة العامة ولؤمها. وعندما أتى دور سعاده في الدفاع والرد نظر في أعضاء المحكمة ووقف مبتدئا دفاعا استمر أكثر من ساعتين وتميز بالخطوط والوقائع التالية:

نصف الساعة الأولى استولى سعاده على مشاعر المحكمة جميعها بما فيهم الحرس الذين أخذوا يبدلونهم كل عشر دقائق، وتقوقعت المحكمة أمام سعاده الذي كان يحلق أمامها في دفاعه وكأن على رؤوسها الطير. وكأنما خاف بعدها يوسف شربل الفتنة بين الحاضرين واندلاع الميل بينهم نحو سعاده، فأنتبه إلى نفسه الحقيرة وأخذ يقاطع سعاده بدفاعه على طريقة أن يسأله ماذا يقصد بهذا أو بذلك مما يقول، كل هذا لكي يذهب أو يخفف على الأقل من سحر الدفاع الذي كان يتدفق من لسان سعاده الثائر وهو يفند منطلقات النيابة العامة، مركزا على أهمية العامل القومي الذي يحدد سياسة الحزب وعلى الأخطار المصيرية التي تعصف بالأمة من الخطر اليهودي عليها، ومن العصف الطائفي الذي لا يقل خطرا عن الخطر اليهودي نفسه.

وكان سعاده يتكلم ويوسف شربل يحاول جهده تعطيل جو التأثر بسعاده الذي ولده الزعيم بين الحاضرين، ولكن كل هذا لم يكن كافيا، واستمر دفاع الزعيم متفجرا كالسيل في لغة عميقة الأصول والجذور وفي معاني عميقة الينابيع يشعر أنه يخاطب الأمة والتاريخ لا هؤلاء الجزارين الجهلة الصغار الذين أوكل إليهم تنفيذ أكبر جريمة على أمتنا وعلى شعبنا بعد سايكس بيكو ووعد بلفور.

وعندما شارفت الساعة العاشرة ليلا أتى من طلب من إبراهيم بري مغادرة القاعة بحجة حاجته للراحة بعد عمل اليوم كله، فنهض المتألم المفجوع الوحيد من مكانه على مضض، وتوجه إلى منزله وهو يودع الزعيم بنظرة أخيرة، والزعيم شامخا في وقفة العز في قفص التاريخ.

دخل إبراهيم بري منزله قبل منتصف الليل الطويل حيث عاود الاستسلام للهواجس المخدرة « سعاده لن يعدم ففي لبنان لا يمكن أن تحصل أمور من هذا النوع ». وغفا إبراهيم بري ليلة الثامن من تموز على هذا مخدرا بهذا الخاطر إلى أن أفاق بعد بضع ساعات على أحداث بائعي الصحف يصرخون في سبات الأمة الراقدة في تلك الليلة: « مصرع الزعيم، إعدام الزعيم ».

 عن إبراهيم بري، كاتب المحكمة