في العام 1925 استشرف انطون سعادة بانه إذا لم تواجه الحركة الصهيونية «التي تقدمت تقدماً لا يستهان به» بخطة نظامية معاكسة لها سيكون نصيبها النجاح. بعد فترة وجيزة اكتمل بحثه عن مجتمعه «السوري» الاتم من طوروس إلى سيناء وواقع هذه المجتمع المشرذم طائفيا فوضع الاسس العلمية لتعريفه وتوحيده بتأسيسه سراً الحزب السوري القومي الاجتماعي في 1932 ليكون نواة الخطة المعاكسة لمواجهة الحركة الصهيونية.
الإكليروس الماروني والحزب القومي
ان تأسيس هذا الحزب لم يمر مرور الكرام داخليا فوجد سعادة نفسه في صراع مع كل الفئات الطائفية والاثنية الداخلية التي تسعى إما إلى الإنفلاش العاطفي أو إلى الانعزال والتقوقع ويتناغم تفكيرها مع الخطة الصهيونية. على رأس هؤلاء كان الاكليروس الماروني الذي اعتبر مبكرا ان هذا الحزب يشكل خطرا على دور وهيمنة البطريركية على المسيحيين ولبنان. أول هجوم علني على الحزب كان عبر كراس كتبه الملحق البطريركي الخور أسقف لويس خليل بعنوان «الحزب السوري القومي: مؤامرة على الوطن» في 25 تموز 1936، وذلك بعد انكشاف امر الحزب بعدة أشهر. لويس خليل تابع حملته ضد الحزب لسنوات عدة على صفحات مطبوعة البشير في سجال مع جريدة النهضة التي اصدرها الحزب في 1937 حتى صيف 1938. اهم الاتهامات التي اراد خليل ايصالها إلى الشباب المسيحي هي ان الحزب القومي مؤامرة على الدين لان فصل الدين عن الدولة «اثم واهانة للباري عز وجل» ومؤامرة على الوطن لأنه يحاول «ملاشاة الوطن اللبناني» ويشكل خطر على مفهوم «الوطن الملجأ الديني». لم تقتصر حملة البطريركية على الحزب القومي على الحملات الاعلامية والتحريض فقط، بل تعدتها إلى المساهمة بجدية في تأسيس أحزاب طائفية مسيحية كالوحدة اللبنانية والكتائب اللبنانية مناوئة له. مؤسس حزب الوحدة توفيق عواد اعترف صراحة «ان حزب الوحدة قام ليناوئ امتداد الحزب القومي الذي كان ينظم عددا كبيرا من الشباب في المناطق اللبنانية الصرفة (أي المارونية)». هذه الحملة خفت وزالت تدريجيا بعد ان غادر سعادة الوطن في تموز 1938 ودعوة القيادة إلى «الواقع اللبناني» في أوائل الأربعينيات.
العلاقات اللبنانية مع الحركة الصهيونية
خلال هذه الفترة كانت البطريركية ومعظم القيادات السياسية المارونية قد أسست علاقات وطيدة مع الحركة الصهيونية سعيا لإقامة وطن قومي مسيحي في لبنان. الوكالة اليهودية التي تأسست في 1923 والتي كانت تدير السياسة الصهيونية مع العالم العربي قبل تأسيس الكيان، قد اقامت شبكة علاقات مكثفة مع معظم زعماء الطوائف في لبنان وخاصة الموارنة حسب كتاب «المتاهة اللبنانية – سياسة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل تجاه لبنان (1918-1958» لرؤوفين أرليخ وترجمة محمد بدير. أهم هذه العلاقات كانت مع إميل اده (رئيس لبنان بين العامين 1936 و1941) الذي وصفته الوكالة بانه «صاحب النزعة الفرنسية والمعارض للقومية العربية والسورية حليفاً طبيعياً». بعد انتخابه رئيساً للبنان في العام 1936، أقام إده علاقات وثيقة مع إلياهو إيلات الذي كان قد تعرف عليه في الجامعة الأميركية في بيروت بين عامي 1931 و1934، والتقى حاييم وايزمان في حزيران 1937 وبارك له دولة اليهود العتيدة، وبعدها التقى ديفيد بن غوريون ورؤوفين شيلواح في صيف 1946 وبعث معهما رسالة تتضمن طلباً مالياً كبيراً من أجل السيطرة على الحكم في لبنان. من الشخصيات المارونية القيادية الأخرى التي نسجت الوكالة اليهودية علاقات معها كان البطريرك أنطوان عريضة، مطران بيروت أغناطيوس مبارك ورئيس حزب الكتائب بيار الجميل. هذا بالإضافة إلى شخصيات ’ الصف الثاني ‘أمثال سلوم مكرزل رئيس الجمعية اللبنانية في اميركا والياس ربابي رئيس تحرير جريدة العمل التابعة لحزب الكتائب الذي طالما طالب وبتكليف من بيار الجميل بأموال من الوكالة اليهودية «لدعم الجريدة وتغيير الحكم في لبنان». أما بشارة الخوري وحسب كتاب الياهو ساسون «في الطريق إلى السلام» في 1978، فقد اجتمع بساسون في 11 آب 1941 في بيروت وقال له «يوجد بيننا وبينكم حائل يجب إزالته وهو جبل عامل. ثمة ضرورة لإخلائه من سكانه الشيعة الحاليين الذين يشكلون خطراً دائماً على البلدين والذين تعاونوا أثناء الأحداث مع العصابات العربية التابعة للمفتي المقدسي»، ويكمل ساسون بان بشارة الخوري إقترح إخلاء جبل عامل من سكانه الشيعة وإسكانه بعد الحرب بالموارنة المقيمين في الولايات المتحدة، وأن يقوم المشروع الاستيطاني اليهودي بإقراض البطريرك الماروني عريضة مبلغاً من المال لهذا الغرض. هذه العلاقات الصهيونية المارونية تُوجت بمعاهدة بين البطريرك عريضة ممثلا البطريركية المارونية وحاييم وايزمان رئيس الوكالة اليهودية في 30 آذار 1946. المعاهدة نصت على التعاون وعلى تأكيد البطريركية دعمها لهجرة اليهود إلى فلسطين واقامة دولة يهودية فيها وعلى تأكيد الوكالة على الطابع المسيحي للبنان.
علاقات الوكالة اليهودية مع الشخصيات اللبنانية لم تقتصر على الموارنة فحسب، بل شملت الطوائف الأخرى ولأسباب مختلفة وكان أهمها مع عائلتي الأسعد وعبد الله الشيعيتين «لمساعدة الاستيطان سواء في المجال الأمني أو في مجال شراء الأراضي داخل أرض إسرائيل» وشملت أيضا عائلة سلام السنية البيروتية التي لعبت دوراً رئيسياً في بيع أراضي الحولة (حوالي 57000 دونم) إلى شركة «تأهيل الاستيطان»، وفقاً لاتفاقية وُقِعّت في 28 تشرين الثاني 1934 من قبل صائب سلام إلى جانب مسؤولي إدارة «تأهيل الاستيطان».
من الشخصيات السنية أيضاً رياض رضا الصلح الذي أقام علاقات مع القيادة الصهيونية سائرا على خطى ابيه الذي أسس لهذه العلاقة منذ العام 1911. طوال مسيرته السياسية، أبدى رياض الصلح استعداداً لما سماه ’ الحوار ‘مع ممثلي الحركة الصهيونية (ولاحقاً مع ممثلي الحكومة الإسرائيلية). في تشرين الثاني 1921 التقى الصلح حاييم وايزمان في لندن، وبعدها بأشهر شارك في مفاوضات بين مجموعة من نشطاء الحركة القومية العربية ووفد من الحركة الصهيونية. بعد ذلك وفي مطلع تموز 1934 التقى الصلح مع بن غوريون في القدس وأعلن أنه «مستعد للعمل من أجل تحقيق تفاهم عربي يهودي»، واستمرت الاجتماعات حتى الأعوام التي سبقت استقلال لبنان في 1943. بعد توقف لفترة خلال حروب الجيوش العربية مع الكيان، استؤنفت اللقاءات بعد تأسيس دولة اسرائيل فعقد الصلح ستة لقاءات سرية مع مدير قسم الشرق الاوسط في وزارة الخارجية الاسرائيلية، الياهو ساسون، في باريس بين تشرين الثاني وكانون الأول 1948 (بدر الحاج، الحقائق والوثائق في إعدام أنطون سعادة (2/2)). تفاصيل هذه الاجتماعات فصّلتها وثائق إسرائيلية وكتب بن غوريون في مذكّراته في 9 كانون الاول 1948: «[إلياهو] ساسون وصل [من باريس] يوجد حسب أقواله إمكانات للسّلام. رياض الصّلح على استعداد لأن يعمل لمصلحتنا» ولكن بعد ذلك ظهرت تقارير تشير بأنهم خططوا لاغتيال الصلح في بيروت، ولكن عدلوا عن الفكرة قي شباط 1949.
عودة الزعيم والصراع مع الصهيونية
بعد عودته إلى الوطن في آذار 1947، وجد سعادة نفسه في نزاع غير متوازن مع المشروع الصهيوني المتغلغل في الداخل والذي كان يضع اللمسات الاخيرة لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. داخلياً في لبنان كان على راس هؤلاء البطريركية المارونية التي اعتبرت سعادة وحزبه يشكل خطرا وجوديا على الكيان اللبناني المسيحي. القوى والطوائف الأخرى رأت في سعادة ايضا تهديدا لمصالحها وسلطتها فرجال الدين وخاصة المسلمين رفضوا دعوته للفصل بين الدين والدولة ورجال الاقطاع السياسي راوا فيه تهديدا مباشرا لزعاماتهم بعد ان استطاع حزبه ان يخرق كل المجتمعات المغلقة الموالية لهذا الاقطاعي أو ذاك. كان على راس هؤلاء الزعماء رئيس وزراء لبنان رياض الصلح الذي «تخل عن الوحدة السورية من اجل منصب في بيروت» كما قال عنه ابن عمه سامي الصلح. رغم تناقضاتهم، اجتمع كل اركان الدولة اللبنانية وخاضوا حربا داخلية ضروس ضد سعادة تصاعدت منهجيا منذ رجوعه إلى الوطن.
خارجيا لا شك ان الحركة الصهيونية والأمم المنتصرة في الحرب العالمية الثانية كأميركا وبريطانيا وفرنسا راقبوا مسيرة سعادة بعد رجوعه للوطن وعرفوا مدى تأثيرها على مشاريعهم ونفودهم في المنطقة إذا نجحت. لم يرق للحركة الصهيونية وحلفائها الغربيين ان يخاطبهم سعادة بلغة السيادة القومية وحقنا القومي في فلسطين ويعلن «إن الأمة السورية هي وحدها صاحبة الحق الطبيعي والشرعي في فلسطين، وأنه ليس لغيرها أن يقول الكلمة الأولى والأخيرة في مصيرها. ليس لبريطانية وليس لروسية وليس لأميركانية أن تقرر مصير فلسطين، بل ليس لمصر ولا للعُربة أن تقرر مصير فلسطين. ليس لجمعية الأمم المتحدة كلها أن تتعمد إلغاء حق الأمم الحرة في تقرير مصيرها بنفسها!». لم يرق لهم ان يعلن بان المسالة الفلسطينية هي مسالة لبنانية في الصميم وشامية واردنية وعراقية في الصميم وان الحزبية الدينية هي لعنة الامة وستفقدنا الارض. لم يرق للحركة الصهيونية أيضا بان سعادة لم يكتف بالمقالات والخطب، بل أقرن الاقوال بالأفعال فاعلن في 1947 انه قد وضع «خطّة العمل لإنقاذ فلسطين وهيأ جميع الترتيبات لإعلان النفير والتعبئة العامة لإخراج قضية فلسطين من هزل الاعتباط إلى جد النضال المخطط المصمم». من هذه الترتيبات «تراكم الأسلحة الخفيفة لديه، ونجاحه في استمالة عدد من اللاجئين لاستخدامهم في اعمال إرهابية» حسب جريدة البيرق في 15 جزيران 1949.
[يتبع في القسم الثاني (2 من 2)، خطة التخلص من سعادة وتنفيذ الاغتيال]