3. مسار المشرق العربي
أما في بلاد الشام، فقد وقعت المنطقة تحت الانتدابين الفرنسي والبريطاني وتم تقطيعها إلى دويلات طائفية لا حول ولا قوة لها، وسُلبت فلسطين من أهلها واُنشئت دولة عنصرية يهودية صهيونية مكانها سُميت «اسرائيل». هذا يعني أننا نعيش اليوم في منطقة المشرق العربي تحت شرعيات دينية، لا شرعية دينية واحدة لأن بلادنا تحتوي على عشرات المذاهب الدينية، ولم تستطع دولة عربية واحدة من إقامة نظام دولة مدنية تفصل ما بين الدين والدولة، وإلغاء الطائفية السياسية. وبما أن الدين لا حدود جغرافية له اذ أنه متصل بالمؤمنين حصريا، يصبح تدخل الدول الاخرى باسم الدين متاحا فيتحالف بعض السوريين الذين ينتمون إلى المذهب السني مثلا مع تركيا، ولا يجدون غضاضة في ذلك، لأنهم لا يؤمنون بالوطن الجامع، بل بالدين المسيطر.
علاوة على ذلك، تبرز أسباب موضوعية وقاهرة تؤدي إلى فشل أو نجاح نشوء الدولة القومية/الوطنية ومنها:
أولاً، كما أسلفنا، يتوقف بناء الدولة ـ الامة على تبني الشعب لهذه المقولة، أي أن يرى الشعب نفسه كوحدة متكاملة ومختلفة عن وحدات اجتماعية أخرى، بمعزل عن دينه أو عرقه. واعتبار الشعب أن وجوده على أرض محددة مرتبط ارتباطا وثيقا بجاره الذي يشاركه هذه الارض سواء كان هذا الجار منتميا إلى ملته أو غير منتمي. وحدة المجتمع أساسية في بناء الدولة القومية/الوطنية، ومن هنا يأتي دور المدارس الرسمية وأساتذة المدارس، فهؤلاء لهم دور فائق الاهمية في بناء الوحدة الوطنية أو سحقها واهمالها (راجع مقالتي «اهداف التعليم الرسمي في الدولة الوطنية»)، والدليل على ذلك المثال اللبناني حيث كانت الوحدة الوطنية والمطالب الوطنية أقوى بكثير ما قبل الحرب الاهلية الطائفية عام 1975، من المرحلة التي تلت الحرب، حيث ازدادت التيارات الطائفية على حساب الدولة ومؤسساتها وعلى رأسها المدرسة والجامعة. انقسمت المدارس وتقوقعت ضمن بيئآتها الطائفية بعد الحرب، وكذلك الجامعة اللبنانية التي لم يعد أحد يسميها «جامعة وطنية»، وهي التي استحقت هذا اللقب بجدارة وتفوّق في فترة ما قبل الحرب الاهلية.
ثانياً، لعب التدخل الخارجي وتقسيم المشرق العربي إلى دويلات طائفية من قبل الغرب المستعمر، كما الاستيطان الصهيوني، دورا فائق الاهمية في منع بناء مجتمع قومي/وطني لأن إقامة دولة وطنية قومية يعني كف يد التدخلات الخارجية وسيطرتها على مصيرنا ومقدراتنا، وهذا ما حاربته ولا تزال تحاربه دول الغرب قاطبة التي لا حدود لمطامعها الاستعمارية. لذلك، من غير الكافي أن يعي الشعب هويته الوطنية الجامعة، بل عليه أن يعمل من أجلها ويدافع عن أرضه تماما كما يدافع عن نفسه وبيته.
ثالثاً، لقد خلق الغرب الاستعماري بتقسيماته المندرجة من اتفاقيات سايكس ـ بيكو ولاحقا سان ريمو، مع نهاية الحرب العالمية الاولى عام 1918، كيانات طائفية تبنتها مجموعات من السكان ترفض التخلي عنها، وهذه هي أكبر عقبة تقف أمام استرجاع وحدة المشرق العربي، حتى لو كان بشكل كونفدرالية، أي حرية الكيانات ضمن هذه الوحدة. والغريب في الامر أن هذه الكيانات مستعدة أن تستسلم للغرب أو للأعداء على أن تقوم بخطوة تجاه التضامن والاتحاد ضمن الهيئة التي كانت موجودة ومتمثلة في بلاد الشام ما قبل الحرب العالمية الاولى، وبالرغم من المصاهرات والزيجات واسماء العائلات الواحدة في هذه الكيانات، وبالرغم من حضارتها ولغتها المشتركة، وبالرغم من أن تقسيمها أدى إلى خسارة كيان بأكمله (فلسطين) واراضي في كل كيان من هذه الكيانات؛ بالرغم من كل ذلك، لا تزال الهوية الدينية/الطائفية مسيطرة على العقول والمشاعر حتى حين تودي بنا إلى الهاوية كما يحصل اليوم. والحال هذه، لا أمل لنا بالبقاء بينما الطوائف تتقاتل فيما بينها، والاعداء الكثر يقضمون الارض ويهجّرون السكان على أهون السبل ودون أن يدفعوا ثمنا جراء ذلك، لأن مفهوم العدو عندنا هو الطائفة الاخرى الرابضة على أرضنا، لا العدو الذي سيقتلعنا سواء انتصرت الطائفة أو هُزمت!
إن الصراع الطائفي الناشئ في كل دول المشرق العربي دون أي استثناء، هو صراع قاتل يدمر جميع دوله وسيمحيها من الوجود مقابل بناء دول من لون طائفي واحد ستظل تتقاتل لأن هذه هي مشيئة المستعمر، ولأن هذه هي الطريقة المثلى كي يحقق الكيان الصهيوني أحلامه على حساب وجودنا، ودون أن يدفع أي ثمن لذلك، فجنود الطائفة هم الوقود لاستمرار الحرب وتأمين المصلحة الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية للغرب المستعمر، لذلك يتقصد الغرب إقامة سلطات متنافرة دينيا في كيانات المشرق العربي؛ فإن ترأسَ سني السلطة في العراق، يوافق هذا الغرب الاستعماري على علوي في سوريا، ومسيحي في لبنان، وحين تنتقل السلطة إلى الشيعة في العراق كما حصل بعد احتلال الولايات المتحدة الاميركية له عام 2003، يعمد إلى تغيير رأس السلطة في سوريا من علوي إلى سني كي يمنع أي تقارب بين دول المشرق العربي. وها قد نجحت تركيا بموافقة أميركية طبعا، في وضع سني على رأس السلطة السورية يحمل تنظيمه ارثا تكفيريا لكل من ليس منه، ويحارب على أسس البغضاء الدينية لا الهوية القومية/الوطنية، وما مجازر الساحل الا مثال على هذا المنحى.
رابعاً، لا يزال المشرق العربي متخلفا في مفهومه للدولة القومية/الوطنية، ويظن أن القومية مرادفة للعرق، وهذا خطأ فاضح، فالمفهوم الحديث للقومية تحول عن هذا التحديد، أقله نظريا، وتبنى مفهوم المساواة بين جميع المواطنين على الارض الوطنية بمعزل عن دينهم أو عرقهم أو جندرهم، فلا تمييز بينهم، وكل من يولد على هذه الارض يحصل على جنسية البلد بالولادة، حتى لو كان أهله غير حاصلين على الجنسية، وله جميع الحقوق والواجبات كأي مواطن آخر.
هذا لا يعني أن الدول الغربية وصلت إلى مثال المساواة في المواطنة الحقة، فهذه الدول لا تزال في حيز الفعل وردات الفعل، والطريق طويل للوصول إلى الهدف، لكن المسيرة باتجاه الاندماج انطلقت، ومثال ذلك مساواة السود بالبيض في الحقوق والواجبات أمام القانون خاصة بعد الحرب الفيتنامية الطويلة حين رفض السود الانخراط في الحرب وهم فاقدو الحقوق المدنية.
فهل من أمل لمشرقنا بالتضامن الوطني بدلا من البغضاء الطائفية؟
4. مفهوم الدولة ـ الامة: انطون سعادة
يُعد أنطون سعادة من أهم المفكرين في القرن العشرين الذين عملوا على تحديد مفهوم المتحد القومي؛ شغله هذا الموضوع بعمق، واعتبره حاسما لإنقاذ المشرق العربي من التفكك والانهيار الذي نشهده اليوم، وهو الذي استشرف هذا المسار وحذر منه، خلافا للعديد من الكتاب العرب الذين ما فتئوا ينظرون إلى انفسهم وإلى غيرهم من خلال منظار ديني أو عرقي صرف.
يحدد أنطون سعادة مفهوم القومية على أساس أنه «جماعة من البشر تحيا حياة موحدة المصالح، موحدة المصير، موحدة العوامل النفسية ـ المادية في قطر معين، يكسبها تفاعلها معه في مجرى التطور، خصائص ومزايا تميزها عن غيرها من الجماعات». (راجع كتاب «نشوء الامم»، المقطع الاخير من الفصل السابع).
يمكننا استنتاج ان مفهوم سعادة للدولة ـ الامة يختلف عن اشكال اخرى تعرّف الامة على أساس لغوي، أو عرقي/عنصري، أو ديني. إذا نظرنا إلى المفاهيم السائدة اليوم للدولة ـ الامة، مع الاخذ في الاعتبار أن هذه المفاهيم تتغير مع الزمن والمكان، حيث انها خاضعة للوقائع التاريخية، ولا يمكن فصلها عن التاريخ البشري ـ نجد نماذج مختلفة من الدول ـ الامم. بعض هذه النماذج تحصر الامة بعرق معين، كما كان الحال في الولايات المتحدة الاميركية، التي أنكرت لفترة طويلة اعطاء حقوق متساوية للسود، أو كما تفعل بعض الاحزاب اليمينية في اوروبا الآن، حيث تنكر الهوية الوطنية للمهاجرين من أصل افريقي، أو كما يفعل الاكراد السوريون الذين يرفضون الاندماج ضمن الدولة ـ الامة، ويحددون هويتهم على أساس اثني صرف. بالإضافة إلى ذلك، ادعى بعض المفكرين العرب أن اللغة وحدها تعرّف الهوية الوطنية، بينما اعتبر آخرون الدين، سواء كان اسلامياً أو مسيحياً، أساسا للانتماء الوطني. تمثل هذه الرؤية للدولة ـ الامة نظرية عنصرية تُمنح فيها الهوية الوطنية لمجموعة معينة من الناس بينما تُمنع عن الآخرين الذين يشاركون نفس الارض، ما يؤدي حتما إلى الانقسام والصراع والفتن الدائمة، وستسمرّ النار في الاشتعال ما دامت هذه المفاهيم لا تتطور لتتطابق مع الواقع المعاش.
من المهم أن نلاحظ ان التمسك باللغة أو الدين أو العِرق كعوامل محددة للهوية هو تراجع وعودة إلى نماذج كانت موجودة في التاريخ القديم والوسيط، والتي ليس لها مكان في المفهوم الحديث للدولة، أي الدولة ـ الامة. فتحديد الهوية على أسس عِرقية هو النمط الذي كان سائدا في الاتحاد القبلي حيث النسب ـ وليس الارض ـ هو المحدد للهوية. وينطبق الامر نفسه على الدين، حيث «الوحدة» تستند إلى الانتماء إلى ديانة معينة، وأي انحراف عن تلك الديانة يُنظر إليه على أنه فقدان للهوية. أما في الدولة الحديثة، الدولة ـ الامة، الارض هي التي تحدد هوية الشعب؛ السكان الذين يفقدون ارضهم يفقدون تلقائيا هويتهم. لدينا أمثلة صارخة على ذلك، منها خسارة الاسكندرون والجولان السوريان، واراض في جنوب لبنان أصبح سكانها ينتمون إلى هوية أخرى تناصب العداء لأهل بلدهم، وقبل كل ذلك فقدان هوية بلاد الشام التي كانت مجتمعا واحدا لكن الاستعمار البريطاني ـ الفرنسي عمد، مع نهاية الحرب العالمية الاولى، إلى تقسيمها طائفيا لإضعافها واخضاعها وانتزاع «فلسطين»، أي جنوب بلاد الشام ومنحها إلى يهود غربيين تبنوا الايديولوجية الصهيونية، وهي ايديولوجيا شديدة العنصرية لأنها عرقية ودينية معا، فالصهيوني لا يستعمر فلسطين فقط، بل يمارس التطهير العرقي والابادة، فيقتل ويهجر سكانها الاصليين، ولا يسمح بتواجد الا من هو/هي يهودياً.
لقد رفض سعادة النظريات العنصرية التدميرية التي مزقت المجتمع، سواء كانت دينية أو عنصرية، ودعا إلى توحيد المكونات اللغوية والعِرقية والدينية التي تتعايش داخل فضاء جغرافي واحد، تحت راية المواطنة، التي تضمن المساواة أمام القانون دون تمييز. إن أهمية القانون لا تأتي فقط من وجوده، ولكن من حقيقة أنه يُطبق على اقليم جغرافي محدد، ما يؤدي إلى مجتمع متجانس وموحد. القانون هو عامل أساسي في تعزيز الوحدة المجتمعية، وبدونه ستستمر الجماعات التي تجلس على قطعة أرض تسمى «دولة » في اتباع قوانينها الطائفية والدينية والعرقية، دون أي رادع.
في الختام، لا زال مفهوم سعادة للدولة ـ الامة متقدماً جداً على زمنه، فهو يدعو إلى قبول ومساواة جميع العناصر المختلفة التي تشكّل مجتمعا يحيا في اقليم محدد، ويرفض استبعاد أي من عناصره على أسس دينية أو عنصرية. هذا لا يعني أن هذه العوامل غير موجودة، انما عليها أن تأتي في الدرجة الثانية بعد مبدأ المواطنة الذي هو المبدأ الاساس لكل من يولد على هذه الارض لكي يتمكن الجميع من التقدم والازدهار، لذلك نطلق عليها اسم القومية/الوطنية أي ان الشعور بالمواطنة والمصلحة المشتركة والتقارب ينبع من التواجد على أرض محددة والتي عبرها نستحصل على هويتنا الجمعية؛ هذه الهوية الجمعية التي لا تستطيع صلات الدم أن تقدمها، ولا صلات الدين الطائفية.
يُعدّ سعادة من القلائل الذين شددوا على أهمية الارض في تحديد مفهوم القومية/الوطنية. الأرض هي الثابت ـ بدونها، نفقد هويتنا، واسمنا كحضارة، وحيوتنا كمجتمع حي. أي شعب يفقد أرضه يفقد هويته، وتصبح حضارته حضارة مفقودة تُدرّس في كتب التاريخ، ولكنها غير موجودة على هذه الارض