الفيدرالية… أو “إيديولوجيا اليأس”

الفيدرالية… أو “إيديولوجيا اليأس”

بين حين وآخر، تستعيد الدعوة إلى “المشروع الفيدرالي” في لبنان نصها وروحها، متكئة إلى تثاقل الأزمات والانغلاقات السياسية التي تضرب لبنان بين مرحلة وأخرى، وإذا كان من نافل القول إن تغيير الأنظمة السياسية أو تعديلها أو تطويرها، يتطلب توافقاً إجماعياً محلياً أو ما يعادله، فإن طرحاً مختلَفاً على أصله مثل “الفيدرالية” غالباً ما يؤدي إلى تكثيف الأزمات ورفدها باستعصاءات إضافية، كما تشهد الحالة اللبنانية منذ طُرح “مشروع الفيدرالية” لأول مرة منذ عقود.
(“الفيدرالية” واجهة الأزمات)
ليس أكثر دلالة على ترابط الدعوة ل”المشروع الفيدرالي” بتعقيدات الأزمة اللبنانية الراهنة، من نكوصها وخفوتها في الأعوام التي سبقت الإنهيار اللبناني المريع في خريف سنة 2019، وإلى حدود غلب فيها الظن على كثيرين، أن “الفيدرالية”غارت في بطون الطروحات القديمة التي ترافقت مع سلسلة الأزمات اللبنانية؛ ولكن مع سقوط لبنان في لجة السؤال الباحث عن مصير نظامه وكيانه، عاد “الطرح الفيدرالي” ليفرض نقاشاته وجدالاته في الوسطين السياسي والفكري، من دون أن تخلو بعض البيئات الشعبية من خوض هذا الغمار.
وهذا الربط بين “المشروع الفيدرالي” وأحوال التأزم اللبناني، يضعه في مصاف التعبير الأعلى عن الأزمة، وليس مدخلاً لحلها على الإطلاق، ولعل العودة إلى المفاصل التاريخية التي شهد فيها “المشروع الفيدرالي” إنعاشاً وانتعاشاً، يغني عن الكثير من القول والتفصيل:
ـ أ ـ : على الرغم من إعلان دولة لبنان الكبير في عام 1920، فقد استمر الجدال حول مصير لبنان ودوره في العقود التي تلت، وبقيت إشكالية التنوع الطائفي تأخذ مداها بين فئات سياسية محددة، وفي ظل السجالات القائمة، وعلى ما يورد فواز طرابلسي في كتابه “تاريخ لبنان الحديث”، اقترح إميل إده “أن تصير طرابلس مدينة حرة تحت الإدارة الفرنسية ويُمنح سكانها المسيحيون الجنسية اللبنانية والمسلمون الجنسية السورية ويُمنح جنوب لبنان نظام الحُكم الذاتي”.
ـ ب ـ يقول الآباتي بولس نعمان في مذكراته المعنونة ب”الإنسان الوطن الحرية”، إن فكرة “الفيدرالية” جاءت رداً على مقترحات “الحل السوري” التي شكلت مضمون “الوثيقة الدستورية” عام 1976، من قبل “لجنة البحوث اللبنانية في جامعة الكسليك”، واعتراضاً على الاقتراح الداعي لأن يختار مجلس النواب رئيس الحكومة، فهذا الاقتراح يتعدى على صلاحيات رئيس الجمهورية ويفرض السيطرة عليه.
ـ ج ـ في “قصة الموارنة في الحرب” يقول القيادي الكتائبي الراحل جوزيف أبو خليل: “كانت المعارك في الأسواق التجارية ـ سنة 1975ـ قد بدأت تأخذ منحى خطيراً، وكان الإحساس بالوحدة بدأ يجتاح الأوساط المسيحية، كانت الترجمة العملية لهذا الشعور بالوحدة والعزل أن بدأ المسيحيون على مستوى قياداتهم الفكرية والسياسية يعيدون النظر في كل ما كان وصار منذ تأسيس لبنان، وتحولت جامعة الروح القدس إلى ملتقى لرجال الفكر والسياسة تتوالى من خلاله الطروحات على أنواعها، مثل التعددية والفيدرالية وما إليهما”.
أكثر من ذلك يقول أبو خليل: “أعترف أنني في وقت من الأوقات كفرت بالصيغة ـ اللبنانية ـ وكان ذلك في أعقاب أزمة نفسية انفجرت في ليلة عنف سوداء، وإذا بي ألعن الصيغة والذي اخترعها، كان ذلك في عام 1976، وأعترف بأنني أنا واضع مشروع الدولة الإتحادية الذي تقدم بها ركنا الجبهة اللبنانية الشيخ بيار الجميل والرئيس كميل شمعون إلى مؤتمر لوزان ـ 1984ـ فهل كنتُ مقتنعا بما كتبتُ؟ وهل كنتُ مقتنعاً بأن هذا المشروع يمكن أن يشكل باباً للتفاهم مع الفريق الآخر؟ ليس قصدي من الكلام على هذا المشروع التدليل على أهمية أو عدم اهمية ما فعلتُ، بقدر ما هو للكشف عن بعض خفايا تلك المرحلة وعن الخلفية السياسية والفكرية التي كانت تتحكم بالمواقف المعلنة، وعن حقيقة الأزمة النفسية التي عاشها المسيحيون في تلك المرحلة وعاشتها قياداتهم على كل المستويات”.
(“الفيدرالية” بين التوحيد والتقسيم)
كثير من المفكرين السياسيين يعيدون قواعد النظام السياسي المعروف ب”الفيدرالية” إلى المفكر الألماني يوهان ألتيزيوس (1557-1638)؛ ففي كتابه “السياسة” يتحدث عن حرية الجماعات والأفراد، بحيث تستجيب الدولة لخصوصيات تلك الجماعات في مجالات الثقافة واللغة والدين.
في حقيقة الأمر، لا يمكن النظر إلى مفهوم يوهان ألتيزيوس ل”الفديرالية” بمعزل عن التوقف ملياً عند ظروف القارة الأوروبية آنذاك، واشتعال الحروب الدينية بين ممالكها وشعوبها، فضلاً عن طموحات العديد من ملوك أوروبا لتوسيع ممالكهم عن طريق القوة العسكرية؛ وفي ظل هذا المشهد الأوروبي المحتدم خرجت نظرية “الفيدرالية” بصفتها دعوة للتعايش وإيقاف الحروب والصراعات بين المجموعات المختلفة.
ومن هذه الزاوية، يمكن القول إن “الفيدرالية” في مبتدأ ظهورها على أرضيات صراعية، ابتغت الإتحاد بهدف الوحدة بين جماعات أو مجموعات لا يجمعها رابط ولا جامع، ولعل المثال الأكثر وضوحاً في ذلك، يتمثل في التجربتين السويسرية والأميركية، وفي ذلك بعض التفصيل:
ـ1 ـ سويسرا: بحسب المادة الأولى من الدستور أن “الإتحاد السويسري” يتألف من 26 مقاطعة؛ وتنص المادة الرابعة، وكذلك المادة سبعون، على أن “اللغات القومية هي الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانشية”.
في هذه المواد الثلاث تعبير واضح عن الفروقات القومية واللغوية بين المقاطعات السويسرية، والدولة الإتحادية التي يمكن توصيفها ب”الدولة العُليا ” كانت غاية إنشائها العمل في مرحلة أولى على تنظيم الإختلافات والفروقات بين هذه المقاطعات، وبهدف إيجاد كيان وطني موحد في مرحلة ثانية.
ـ 2 ـ الولايات المتحدة الأميركية: مع أن خطابات السياسيين الأميركيين والمراسلات الرسمية للدولة تعتمد اللغة الإنكليزية، إلا أن الدستور الأميركي لا يحدد لغة رسمية للبلاد، وهذا الأمر ناتج عن التعدد اللغوي والقومي في الولايات المتحدة باعتبارها مجتمعاً للمهاجرين، وقد أصدر مكتب الإحصاء الأميركي عام 2013 دراسة حول استخدام اللغات المتدولة، فظهر أن الأميركيين يتحدثون في بيئاتهم المحلية بالإسبانية والفرنسية والإيطالية والبرتغالية والألمانية والروسية والبولندية والفارسية والصينية واليابانية والكورية والفيتنامية والفليبينية والعربية، بالإضافة إلى لغات أقل انتشاراً؛ وما من شك أن الأميركيين الأوائل، وقبل انتشار اللغات الأسيوية، كانوا يدركون أن الولايات المتحدة هي عبارة عن مجتمعات مركّبة ومختلطة الأعراق والقوميات، واختيارهم للنظام الفيدرالي تعبير عن سعيهم لاختيار آلية سياسية ـ دستورية، لإدارة هذا التركيب المعقد ودفعه نحو الإنصهار في إطار دولة واحدة.
في هذين الأنموذجين يتضح الآتي:
ـ شكلت التشعبات القومية والثقافية في التجربة السويسرية دافعا نحو الإتحاد، فيما الإتحاد ذاته كان بديلاً عن الإنقسام.
ـ شكلت مجتمعات المهاجرين في الولايات المتحدة بخلفياتها المتعددة الثقافات واللغات والأعراق أرضية الدولة الإتحادية، وربما ليس من الغلو بشيء إذا قيل إن الدولة الإتحادية في الولايات المتحدة كانت خيارا لا بديل عنه مقابل الحروب الضروس التي خاضها المهاجرون بعضهم في مواجهة بعضهم الآخر لأكثر من قرنين من الزمان.
بناء على ما تقدم، يغدو القول بأن “الفيدرالية” منذ انبثاقها نظرياً مع الألماني يوهان ألتيزيوس، وتحولها بعد ذلك إلى نظام سياسي تتحدد من خلاله عملية انتظام الجماعات المتخالفة ثقافياً وقومياَ، قد أملته ضرورات الخروج من التخالف نحو التآلف، ومن واقع الإنقسام إلى قواعد الإنسجام، وهذا لا ينطبق على لبنان من قريب أو بعيد، لا من حيث التعدد القومي، ولا من حيث التعدد الثقافي، ولا من حيث الإختلاف الحضاري أو التاريخي. وإذا جاز القول إن البحث في الجذور القريبة لشرائح واسعة من العائلات الروحية اللبنانية، سيُفضي إلى نتيجة مؤادها أن تلك الشرائح، من هنا وهناك، كانت إلى الأمس القريب على غير ما هي عليه الآن، والسؤال الذي يعقب هذه النتيجة: أي قوميات أو ثقافات متناحرة في لبنان يتوجب إيجاد “ربط نزاع” بينها من خلال “الفيدرالية” أو ما يماثلها؟.
(خاتمة)
من دون كثير إطالة، ما لا ريب فيه أن “الفيدرالية” مشروع توافقي بين مجتمعات منقسمة ومتعارضة، وبهذه الحالة تكون الدولة الإتحادية حلا للإنقسام، أي حالة جامعة للمبعثرات والمتفرقات، بينما المجتمع الواحد كما هو المجتمع اللبناني حين يذهب نحو “الفيدرالية” يكون أشبه بمن يستعطي المتفرقات لأجل الفرقة، وسعياً إلى التقسيم .
في الختام عودة إلى جوزيف أبو خليل، إذ يقول:
“ليس صحيحاً إذا انفصل المسيحيون عن هذا المحيط تقل المخاطر التي تهددهم، بل العكس هو الصحيح، والمراهنة على تقسيم المنطقة إلى كيانات سياسية على نحو ما هو الكيان الإسرائيلي مراهنة في غير محلها، فلا اللعبة والمصالح الدولية ستسمح بهذه الشرذمة، ولا الشرذمة نفسها تنهي الصراع بين الأقليات أو تضمن سلامها، بل ستزيد الصراع حدة والخطر على أمن هذه المجموعات وسلامها دائماً ومضاعفاً”.

توفيق شومان