الفراغ والفدرلة وجهان لكذبة متفق عليها

الفراغ والفدرلة وجهان لكذبة متفق عليها

حديث البلاد والعباد، الفراغ في الحكم، الفراغ في رئاسة الجمهورية، وحكومة تصريف الأعمال، فيرى البعض وجوب إنتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة دستورية، ويرى البعض الآخر أن الحل بمؤتمر تأسيسي بعد أن أستنفذ دستور الطائف مهامه ووظائفه، ويرى فريق آخر من اللبنانيين أن الحل هو باللامركزية الموسعة ومنها اللامركزية المالية، ويذهب آخرون الى طرح الفدرالية كحل ناجع وناجح.

ومساهمة منا في الحل، نرى أنه لا بد من التساؤل: هل يوجد فراغ في الحكم؟ وهل لأحد في لبنان مصلحة في تحقيق الفدرالية؟

إن التنظيم الإداري يكون مركزياً أو غير مركزي أو مزيج من المركزية واللامركزية، ويقصد بالمركزية توحيد كل مظاهر النشاط الإداري في الدولة وتجميعها في السلطة التنفيذية وأجهزتها في العاصمة والأقاليم بشكل يسمح بتوحيد الأسلوب الإداري وبتجانسه بالنسبة لكل أقاليم الدولة وجميع المواطنين. وتتطلب المركزية تركيز الوظيفة الإدارية بيد الحكومة التي تتولاها بواسطة إدارتها المركزية المؤلفة من رئيس الدولة ومجلس الوزراء والوزراء، ومن حسنات النظام المركزي المحافظة على الوحدة القانونية والسياسية للدولة، ومن سيئاته حصر كل شيء بيد السلطة المركزية الأمر الذي يؤدي الى عرقلة أعمال المواطنين.

أما اللامركزية فتقوم على أساس توزيع الوظيفة الإدارية بين الإدارة المركزية من ناحية وهيئات إدارية أخرى متخصصة على أساس إقليمي أو مرفقي من ناحية ثانية على أن تمارس هذه الهيئات سلطاتها في نطاق القانون وتحت رقابة الدولة (السلطة المركزية) وإشرافها. اللامركزية تعمل بطبعها على خلق عدد من الأشخاص الإدارية العامة بجانب الدولة لكل منها ذمتها المالية المستقلة وكيانه القانوني الخاص.

إن النظام اللامركزي يهدف الى تفتيت ظاهرة التركيز في ممارسة السلطات العامة في الدولة المعاصرة ويهدف أيضاً الى توسيع مفهوم الديمقراطية حين تنقل سلطة التقرير النهائي في الشؤون العامة الى هيئات محلية منتخبة.

تتمثل اللامركزية في نوعين: اللامركزية الإقليمية (الحكم المحلي – البلديات) واللامركزية المرفقية.

  • اللامركزية الإقليمية تقوم على تنظيم الجهاز الإداري في الدولة على أساس يسمح بتعدد أشخاصها الإدارية على أساس إقليمي وترتكز على الاستقلال المحلي أو الإقليمي. فإلى جانب الحاجات العامة التي تؤمنها الدولة (كالدفاع والأمن والعدل) توجد أيضاً حاجات محلية مستقلة عن الأولى تؤمنها إدارة محلية، والدولة هي التي تحدد المرافق العامة التي تعتبرها وطنية (عامة) والمرافق التي تعتبرها محلية.
  • اللامركزية المرفقية تقوم على أساس توزيع العمل بين الأشخاص الإدارية على أساس العنصر الموضوعي أي على أساس طبيعة النشاط ونوع المرافق والمشاريع التي يمكن أن يمتد إليها هذا النشاط ويتعلق بها، والتي تتطلب تحرير العمل فيها من قواعد الروتين الإداري العادي المتبع في الإدارات العامة، وعليه كان لا بد من منح الأجهزة التي تشرف على إدارة هذه المشاريع الشخصية المعنوية وبعض الإستقلال الذاتي والطريقة تحقق هذا النوع من اللامركزية الإدارية هو في إنشاء مؤسسات عامة (الكهرباء، المياه والمستشفيات).

من الناحية السياسية فاللامركزية الإدارية وسيلة لتحقيق ديمقراطية الإدارة وكفالة اشتراك الشعب فعلاً في إدارة شؤونه العامة المحلية بنفسه إلا أن نظام اللامركزية يقوم على خلق مجموعة من الوحدات الإدارية المستقلة داخل الدولة، الأمر الذي يهدد وحدة الدولة السياسية والقانونية، ومن الناحية الإدارية فإن ضرورات الإصلاح الإداري تقضي بأن تكون الأجهزة الإدارية قريبة دائماً من منبع الحاجات العامة التي تقوم بإشباعها. ومن ناحية أخرى فإن خلق مجموعة من الوحدات الإدارية المستقلة المتخصصة في الشؤون المحلية، قد يكون سبباً لتغليب المصالح المحلية على المصالح العامة الوطنية، فتستأثر الحزبية المحلية بإدارة هذه المصالح.

إن اللامركزية الإدارية هي مجرد أسلوب إداري يتصل بطريقة تسيير الوظيفة الإدارية في الدولة، ولا يمس وحدة الدولة القانونية أو السياسية.

أما اللامركزية السياسية (الفدرالية والكونفدرالية) تعتبر نوعاً من أساليب التنظيم الدستوري للدولة وتقوم على حساب وحدتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، فهي تقر للأقاليم (أو المناطق) الحائزة على اللامركزية السياسية استقلالاً ذاتياً في الحكم مع إشتراك في بعض المرافق الهامة كالدفاع والشؤون الخارجية والمالية، بحيث تتولاها سلطة إتحادية وتتكون من ممثلي الأقاليم ويعرف هذا النظام بالنظام الكونفدرالي وهو سائد في الولايات المتحدة الأميركية وسويسرا والمانيا الإتحادية وغيرها.

إذاً اللامركزية الإدارية هي أسلوب من أساليب الإدارة، أما اللامركزية السياسية فهي أسلوب من أساليب الحكم، واللامركزية الإدارية قد تكون مقدمة لإنفصال سياسي، بانقلابها الى لا مركزية سياسية وانتهائها الى استقلال تام، إذا كان مبعث اللامركزية الإدارية عوامل عنصرية أو بواعث إقليمية.

منذ سنة 1516 أصبح لبنان إقليماً تابعاً للسلطنة العثمانية وبقي الحكم فيه بأيدي الأمراء، وكان النظام الإداري المعمول به في تلك الحقبة نظاماً إقطاعياً. وفي سنة 1840 وضع نظام القائمقاميتن الذي لم ينجح وحدثت فتنة 1860 الأمر الذي دعا الى إعادة النظر في النظام الإداري المذكور ووضع ممثلو الدول الخمس (فرنسا وانكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا) بالإتفاق مع الدولة العثمانية نظاماً جديداً عرف ببروتوكول 1864 أو بنظام المتصرفية.

إن نظام المتصرفية جعل جبل لبنان متصرفية ذات إدارة مستقلة يتولاها حاكم مسيحي كاثوليكي أطلق عليه اسم متصرف تعينه الدولة العثمانية برضى الدول الخمس ويكون الباب العالي مرجعه، وهو يتولى السلطة الإجرائية يعاونه مجلس إدارة هو رئيسه ، ويتألف من اثني عشر عضواً منتخبين من بين الطوائف الستة التي ينتمي إليها أهالي الجبل ، وتتمثل فيه كل طائفة بعدد من المقاعد . ولم يكن التمثيل الطائفي في الجبل مقتصراً على الوظائف الإدارية بل كان شاملاً أيضاً الوظائف القضائية.

في سنة 1915 ودخول تركيا الحرب العالمية الأولى عينت تركيا على لبنان متصرفاً تركياً. دخلت جيوش الحلفاء لبنان في تشرين 1918 ودخل لبنان مرحلة الإنتداب الفرنسي، وفي 3 آب 1920 أصدر المفوض السامي الفرنسي قراراً بإعادة حدود لبنان الطبيعية إليه، وبتاريخ 31/8/1920 أصدر المفوض السامي قراراً يسري مفعوله ابتداء من أول أيلول 1920 بإلغاء متصرفية جبل لبنان وولاية بيروت وإعلان دولة لبنان الكبير بحدودها الحالية.

وفي 23 أيلول 1926 أعلن الدستور اللبناني الذي جعل من لبنان جمهورية وعين شكل الحكم وحقوق المواطنين والسلطات العامة في البلاد، ففوض مهمة التشريع الى هيئة تمثيلية، ووظيفة التنفيذ الى رئيس الجمهورية يعاونه وزراء مسؤولون أمام ممثلي الأمة كما فوض الى المحاكم السلطة القضائية.

في 3 شباط 1930 صدر المرسوم الإشتراعي رقم 5 الذي ألغى التنظيم الإداري السابق وقسم أراضي اللبنانية الى خمس محافظات، وبتاريخ 29/12/1954 صدر المرسوم رقم 11 الذي قسم لبنان الى خمس محافظات كما كانت سابقاً والى عشرين قضاء. وبتاريخ 12/6/1959 صدرالمرسوم رقم 116 المتعلق بالتنظيم الإداري في لبنان الذي قضى بتقسيم أراضي الجمهورية اللبنانية الى محافظات وتقسيم المحافظات الى أقضية وتمثيل الوزارات في المحافظات والأقضية بدوائر.

أنشئت محافظة النبطية بموجب القانون رقم 36/75 تاريخ 23/9/1975، كما أنشئت في البقاع محافظة جديدة باسم محافظة بعلبك الهرمل بموجب القانون رقم 522 تاريخ 16/7/2003 ومحافظة جديدة أخرى باسم محافظة عكار.

نص القانون الصادر بالمرسوم الإشتراعي رقم 111 تاريخ 12/6/1959 بأن جهاز الدولة المركزي يتألف من المديريات العامة لرئاسة الجمهورية ولرئاسة مجلس الوزراء ومن الوزارات بالإضافة الى اللامركزية المرفقية المتمثلة بالمؤسسات العامة المنظمة بموجب المرسوم رقم 4517 الصادر بتاريخ 13/12/1972 ، وتشمل المؤسسات العامة أشخاص القانون العام المستقلين عن الدولة والبلديات ولكنها خاضعة لسلطتي الوصاية والرقابة من قبل أجهزة الدولة المركزية وتعتبر مؤسسات عامة الموسسات العامة التي تتولى مرفقاً عاماً وتتمتع بالشخصية المعنوية والإستقلالين المالي والإداري .

أما بالنسبة الى اللامركزية الإقليمية (الحكم المحلي والبلديات) فقد حدد قانون البلديات الصادر بالمرسوم الإشتراعي رقم 118 تاريخ 20 حزيران 1977 نظام الحكم المحلي وعرف البلدية بأنها إدارة محلية تقوم، ضمن نطاقها ، بممارسة الصلاحيات التي يخولها لها القانون وتتمتع البلدية بالشخصية المعنوية والإستقلال المالي والإداري في نطاق القانون ، وأخضع القانون سلطات الحكم المحلي لرقابة السلطة المركزية وأجهزتها الرقابية .

بناء لما تقدم ووفقاً لأحكام الدستور اللبناني والقوانين النافذة، فإن التنظيم الإداري اللبناني يقوم على ركيزتين : المركزية واللامركزية .

ففيما يتعلق بالإدارة المركزية فإنه يمكن تقسيمها الى جهازين : جهاز منحه الدستور صلاحيات عامة وهو يتمثل برئيس الجمهورية ومجلس الوزراء ورئيس مجلس الوزراء ، وجهاز مختص بإدارة المرافق العامة ويتألف من الوزراء ومعاونيهم من الموظفين أو العاملين في القطاع العام . فرئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه، وحدد الدستور إختصاصات رئيس الجمهورية التي تؤكد ” الصفة الدستورية ” لرئيس الجمهورية كرئيس للدولة وللسلطة التنفيذية وحتى للإدارة المركزية، كما أنه رئيس للإدارة المركزية لأنه يصدر جميع المراسيم التنظيمية والفردية المتعلقة بتأمين سير العمل في الإدارات العامة. أما مجلس الوزراء فإن التعديل الدستوري عام 1990 جعله مركز الثقل في ممارسة السلطة التنفيذية واختصاصاتها ، فهو الممارس الحقيقي للسلطة التنفيذية ومهامها ، وهو هيئة جماعية تتخذ قراراتها بالتوافق أو بالتصويت للتحقق من توافر الأغلبية في إتخاذ هذه القرارات ، ورغم عدم مشاركته بالتصويت فإن رئيس الجمهورية قد يؤثر في مجلس الوزراء إن من ناحية تشكيل الحكومة حيث يصدر مرسوم التشكيل بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء وإن من ناحية مناقشات مجلس الوزراء وقد ينضم بعض الوزراء الى وجهة النظر التي يتبناها مما يدفع الى حد القول بأن رئيس الجمهورية يبقى الرقم الصعب في السلطة الإجرائية ، وعلى أي حال فقد أنيطت السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء فهو يضع السياسية العامة للدولة وفي جميع المجالات ، ويضع مشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية ويتخذ القرارات اللازمة لتطبيقها والسهر على تنفيذ القوانين والأنظمة والإشراف على أعمال كل أجهزة الدولة من إدارات ومؤسسات مدنية وعسكرية وأمنية ويعين موظفي الدولة وصرفهم وقبول استقالاتهم وحل مجلس النواب .

وتجدر الإشارة الى أمر مهم وهو أن النصاب القانوني لإنعقاد مجلس الوزراء يكون بثلثي أعضائه ويتخذ قراراته توافقياً وإذا تعذر فبالتصويت ، ويتخذ قراراته بأكثرية الحضور ، كما أن هناك موضوعات أساسية تقتضي موافقة أغلبية خاصة لإصدار قرار بشأنها أي أغلبية ثلثي أعضاء الحكومة المحدد بمرسوم تشكيلها، ومن هذه الموضوعات إعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها ، الحرب والسلم ، التعبئة العامة ، الإتفاقات والمعاهدات الدولية ، الموازنة العامة للدولة ، الخطط الإنمائية الشاملة والطويلة المدى ، تعيين الفئة الأولى أو ما يعادلها ، إعادة النظر في التقسيم الإداري ، حل مجلس النواب ، قانون الإنتخاب ، قانون الجنسية ، قوانين الأحوال الشخصية وإقالة الوزارء .

إن مسألتي النصاب القانوني لإنعقاد مجلس الوزراء ولإتخاذ القرارات بشأن الموضوعات الأساسية التي ذكرها الدستور هما مسألتان في غاية الأهمية إذ يؤكدان على عدم إمكانية أي طائفة أو مذهب في لبنان الاستفراد في السلطة، ذلك فإن تكوين مؤسسات السلطة في لبنان هو تكوين طائفي ومذهبي، نص الدستور اللبناني صراحة على ذلك وإن لم يخصص طائفة أو مذهب بمنصب أو بمركز عام. وجعل الدستور قاعدة التوافق ببين الطوائف أي بين ممثلي الطوائف في السلطة أمراً حتمياً في الموضوعات الأساسية في بناء الدولة. فإن توافقوا سارت الأمور وفقاً للأصول الدستورية والقانونية ، وإن تنازعوا جمدت أعمال السلطة الى حين التوافق ، والتوافق في إدارة الدولة أو عدم التوافق ينعكس إيجابياً أو سلباً على الإدارة المركزية وعلى اللامركزية الإقليمية Kالحكم المحلي واللامركزية المرفقية (المؤسسات العامة)، ذلك أن الإدارة المركزية هي صاحبة الصلاحية في تعيين إدارات المؤسسات العامة، وصاحبة الصلاحية في الرقابة الإدارية والمالية عليها، وكذلك فالإدارة المركزية صاحبة الصلاحيات في الرقابة على البلديات التي تمارسها بواسطة المحافظين والقائمقامين وهم موظفين لدى الإدارة المركزية بالإضافة الى هيمنة القوى السياسية الممثلة في الحكومة على مجالس البلديات عبر الانتخابات البلدية.

وبناء على ذلك يمكنا القول بأن التنظيم الإداري في لبنان يقوم على ركيزتي المركزية واللامركزية ولكن من الناحية النظرية فقط ، أما عملياً فهو تنظيم شديد المركزية قائم على الطائفية والمذهبية وتوزيع الحصص الوظيفية بين الطوائف والمذاهب ، وتوزيع المكاسب والمنافع المالية والمادية بين زعماء الطوائفوالمذاهب إذ برع هؤلاء باستخدام الأدوات الطائفية والمذهبية وإثارة ذعر طوائفهم وخوفها من بعضها البعض ، واستطاعوا بذلك حشد الجماهير الطائفية والمذهبية خلفهم من كل طبقات المجتمع ، الفقيرة والغنية ، الجاهلة والمتعلمة ، ونسجوا علاقات مع الجهات الخارجية المتعددة التي أمنت لهم الدعم المادي والمالي والغطاء السياسي الخارجي ، فاستطاع هؤلاء التحكم بمصير طوائفهم ومذاهبهم فعينوا النواب والوزراء والموظفين ، وبذلك سيطر هؤلاء الزعماء على مقدرات البالد وثرواتها ، وأقاموا فيما بينهم حكم مركزي طائفي مذهبي تحاصصي متماسك وشديد الصلابة ومنعوا التغير بقوانين إنتخابية لا يمكن أن تحقق التمثيل العادل للشعب ومنعوا المحاسبة والمسآلة عنهم عبر سيطرتهم على أجهزة الرقابة في الدولة التي وزعوها طائفياً ومذهبياً وعبر تعطيل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤوساء والوزراء ، وعبر تقاسم النفوذ في القضاء العدلي والإداري .

لقد استطاع زعماء الطوائف والمذاهب وهم بمعظمهم آتون من ساحات الحرب الأهلية التي استمرت أكثر من خمسة عشر عاماً إقامة شبكة علاقات واسعة ومتينة مع المنظومات الإقتصادية في البلاد الكبيرة منها والصغيرة، خاصة كارتيلات وإحتكارات المحروقات والغذاء والدواء والإتصالات وعلى الأخص الرأسمال المصرفي، والمؤسسات الاقتصادية وعلى رأسها العقارية، وقد قامت هذه الشبكة على تبادل المصالح والمنافع والأرباح.

فالزعماء تولوا التغطية القانونية والتشريعية وتأمين البيئة الإستثمارية الصالحة لرأس المال اللبناني المتوحش، والكارتلات الاقتصادية أمنت للزعماء الإمدادات المالية اللازمة لتعظيم الثروات والنفوذ.

الزعماء تولوا تشريع إعفاء الإحتكارات الإقتصادية والمالية من الضرائب والرسوم فخفضوا معدلات الضريبة الى 10% فقط ومنحوا إعفاءات للشركات العقارية ، والشركات المساهمة وخاصة المصرفية ، ووفروا الطرق الآمنة للتهرب الضريبي لكبار المكلفين عبر السيطرة على الإدارة الضريبية والتدخل في مهامها ، الأمر الذي أدى الى قصور الإيرادات العامة من ضرائب ورسوم وحاصلات أملاك الدولة عن تغطية النفقات الحكومية حيث توسعت المنظومة السياسية في الإنفاق الحكومي بدون إجراء أي إصلاح حقيقي في الإقتصاد والنظام الضريبي ، وبدلاً من ذلك ذهبت سلطة الزعماء الى تغطية العجز في موازنة الدولة بالإقتراض بالعملة الوطنية والعملات الأجنبية ، وإجزلت هذه السلطة بإعطاء المكتتببن بسندات الخزينة فوائد مرتفعة ، ذهبت بمعظمها الى أصحاب المصارف وكبار المودعين ومنهم السياسيين الممسكين بزمام السلطة يلي فوائد الدين العام الإنفاق على مؤسسة الكهرباء المنهوبة والمسروقة من كارتيلات النفط وسرقة التيار الكهربائي ، وتعاظم الإنفاق على الرواتب والأجور في القطاع العام بنتيجة التوظيف غير المشروع من قبل الزعماء الممسكين بالسلطة في حين تضاءل الإنفاق الإستثماري ولم يتجاوز الـ 7% من إجمالي الإنفاق الحكومي ، وكانت النتيجة أن عجزت الدولة عن سداد فوائد الدين العام وأقساط الديون والإنفاق المجدي على الشؤون الإجتماعية من صحة وتعليم وسكن وغذاء ، كما عجزت عن تأمين الموارد المالية لتغطية عجز الموازنة العامة واتجهت الى فرض ضرائب جديدة ، فانفجرت انتفاضة 17 تشرين الأول وانكشف مستور السلطة فأعلن الإفلاس وحدث الإنهيار وما زال يتوسع ويتعمق . والمنظومة السياسية المالية الحاكمة ما زالت ممسكة بالسلطة وممعنة في سياسات الإفقار للشعب وسلب الأموال العامة والخاصة … ويتحدث أركانها الآن عن الفراغ السلطوي، فراغ في رئاسة الجمهورية، حكومة تصريف أعمال ويروجون بأن الحل هو بملء الفراغ … ويرى بعض آخر من مكونات السلطة في لبنان بأن الحل هو في الفدرالية وبأنه أصبح من الضروري أن تتحكم كل طائفة بمواردها المالية جباية وإنفاقاً …

إن الفراغ في السلطة  منعدم الوجود في لبنان والفدرلة كذبة متفق عليها ، ذلك أنه ومنذ اتفاق الطائف ولا سيما منذ العام 1993 ولغاية تاريخه لم تتوقف المنظومة السياسية المالية الممسكة بزمام الحكم عن جباية الضرائب والرسوم وحاصلات أملاك الدولة وعن الإستدانة لتغطية عجزي الموازنة العامة والخزينة ، ولم تتوقف أيضاً عن الإنفاق الحكومي سواء كانت الحكومات  قانونية أم كانت حكومات تصريف أعمال أو حكومات غير ميثاقية بنتيجة إنسحاب مكونات طائفية منها ، وسواء أكان رئيس الجمهورية موجوداً أم كان مركزه شاغراً ، لقد استمرت أعمال الإنفاق والجباية والإستدانة سواء بمسوغ شرعي أو غير شرعي وسواء أكانت الموازنة العامة مقرة وفقاً للأصول أو بدون موازنة أو مشروع موازنة أو على القاعدة الإثني عشرية. فكيف حصل وما زال يحصل ذلك؟

ففي أميركا مثلاً وهي الدولة العظمى تأخر الكونغرس أسبوعاً عن إقرار الموازنة العامة للدولة فأمر رئيس الجمهورية بوقف أعمال الحكومة فوراً ، لكن في لبنان وبالرغم من إمكانياته المالية الضعيفة وبالرغم من الفراغات المتكررة في السلطة على كافة مستوياتها فإن الفراغ كان ظاهرياً ولكن في الحقيقة فإنه لا يوجد فراغ في الحكم في لبنان ذلك أن الزعماء السياسيين للطوائف مدعومين من رجال الدين في طوائفهم وبالتحالف مع رأس المال المصرفي والإحتكارات الإقتصادية ، كانوا جميعهم يشكلون جماعة أو عصبة أو منظومة حكم متماسكة ومتحالفة حول تعظيم فوائدها ومكاسبها ومنافعها ومغانمها من المال العام والخاص ، وكانت قوة الرابط المالي بين أعضاء هذه العصبة هي الأقوى من أي روابط أخرى فحققت هذه العصبة الأرباح والثروات الهائلة على حساب المواطنين اللبنانيين من كافة الطوائف والمذاهب ، وبذلك تحقق فرز غير ظاهر للعيان بين طبقتين في المجتمع اللبناني : طبقة الحكام والرأسماليين المتحالفين مع بعضهم البعض ومن كل المذاهب والطوائف وطبقة عموم المواطنين المغلوب على أمرهم والمنهوبة أموالهم وثرواتهم وهم من مختلف الطوائف والمذاهب ، وغير ذلك غير صحيح ، فالإنقسام الحقيقي في لبنان طبقي بين حكام ورأسماليين وبين فقراء ومتوسطي الدخل ، والآن أصبح معظم الشعب اللبناني فقيراً نتيجة الإنهيار المالي والإقتصادي والنقدي والمعيشي الذي يعيشه لبنان بسبب النهب والهدر للأموال العامة والخاصة من قبل طبقة الحكام وحلفائهم الرأسماليين ، وإليكم الدليل :

  • بلغ الدين العام لغاية شهر آب 2022 حوالي 104 مليار $
  • بلغت خسائر المصرف المركزي لغاية 31/12/2022 حوالي 103 مليار $

فأصبحت الخسائر اللاحقة بالدولة ومصرفها المركزي المعلنة حتى الآن حوالي 207 مليار $ وهي تشكل أموال منهوبة أو مهدورة من قبل المنظومة الحاكمة.

  • بلغت الفوائد على الدين العام حوالي 92% من الدين العام استفادت منها المصارف وكبار المودعين ونسبتهم 1% من المودعين ويملكون حوالي 48% من الودائع وهؤلاء كبار الرأسماليين سياسيين وإقتصاديين ومن جميع الطوائف والمذاهب.
  • أنفقت الحكومات على البنى التحتية حوالي 7% من الإنفاق الحكومي الإجمالي و93% إنفاق جاري منه 38% على الفوائد التي دفعتها الحكومات على الدين العام.
  • منذ العام 1993 اعتمدت الحكومات سياسة نقدية هدفت الى رفع ربحية المصارف ورؤوس أموالها وحققت هذه السياسة أهدافها فرفعت رؤوس أموال المصارف بنسبة 2500% حتى سنة 2010.
  • إتبع مصرف لبنان سياسات نقدية متعددة لرفع ربحية المصارف وزيادة رؤوس أموالها وأهم هذه السياسات:

– رفع معدلات الفوائد على سندات الخزينة والتي أصبحت تشكل العامود الفقري لهيكلية الفوائد في السوق فقد بلغ معدل الفائدة في بعض الأحيان حوالي 40% على سندات الخزينة.

– الإستدانة من المصارف بما يتجاوز حاجة الخزينة العامة.

– إصدار شهادات إيداع لحساب مصرف لبنان تحمل فوائد موازية لفوائد سندات الخزينة بغية امتصاص فائض السيولة لدى المصارف وإصدار هذه الشهادات كان على حساب أرباح مصرف لبنان الصافية والتي يتم تحويل 80% الى حساب خزينة الدولة.

– إصدار سندات خزينة تتعدى عجز الموازنة والخزينة.

– تمويل دمج المصارف.

– قبول مصرف لبنان ودائع المصارف بالدولار إذ أعطى مصرف لبنان المصارف التجارية فوائد على هذه الودائع تفوق ما يستطيع مصرف لبنان توظيفه في الخارج وشكل ذلك خسارة كبيرة لمصرف لبنان.

  • بلغ الإنفاق الحكومي من العام 1993 حتى العام 2020 حوالي 251 مليار $ ، إلا أن ما أنفقته الحكومات القائمة أو حكومات تصريف الأعمال بوجود رئيس جمهورية أو بحالات خلو سدة الرئاسة ، وخلال هذه الفترة بدون ترخيص من مجلس النواب وبدون موازنات أي خلافاً للدستور وقانون المحاسبة العمومية ولكن بموافقة وبرضى وبأمر من الزعماء السياسيين (عصبة الحكم) بلغ 121 مليار $ يمثل 51% من إجمالي الإنفاق ما عدا الإنفاق من خارج الموازنات العامة أي بواسطة سلف الخزينة المعطاة للمؤسسات والصناديق العامة وهي لا تقل عن أربع مليارات دولار ، ومعظم هذه السلف تم اعطاؤها خلافاً لقانون المحاسبة العمومية علماً بأن هذه المؤسسات والصناديق خاضعة لنفوذ الزعماء السياسيين .
  • إن الإقتراض (الدين العام) غير المجاز (أي بدون قانون) بلغ 36232 مليار ما يعادل 24 مليار $ ويقتضي أن يضاف إليه الإقتراض لتمويل عجز الخزينة وسلف الخزينة.

إن الإنفاق والاقتراض غير المجازين يخالفان الدستور وقانون المحاسبة العمومية وتحمل مسؤوليتهما الحكومات والوزراء مجتمعين ومنفردين وعليهم دفعها من مالهم الخاص عملاً بأحكام المادة 112 من القانون المذكور، أي أنها من الأموال التي يقتضي استرجاعها كما يتحمل مسؤولية هذه الأموال مجلس النواب بصفتيه التشريعية والرقابية.

  • إن معدل التضخم في لبنان تجاوز الـ 211% وأن أسعار بعض المواد تجاوز الـ 4000%.
  • إن سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية تجاوز الـ 42 ضعف وخسرت الليرة حوالي 97.5% من قيمتها الشرائية مقابل الدولار الأميركي.
  • إن انخفاض سعر العملة الوطنية تجاه العملات الأجنبية نقل فعلياً عبء ديون الدولة وخسائرها الى المواطنين الذين أصبح 92% منهم عند خط الفقر أو ما دونه.

إن السياسات الإقتصادية والمالية والنقدية ومنذ اتفاق الطائف أدت الى إلحاق أفدح الأضرار بقطاعات الإنتاج الحقيقي في لبنان، وتسببت في إسقاط شرائح واسعة من الطبقة الوسطى الى حدود الفقر ودونه بجانب توسيع نطاقي البطالة والهجرة وتوسيع الفوارق الطبقية.

إن كل ذلك حصل بالرغم من حصول فراغات شكلية في السلطة الرسمية سواء كحكومات قائمة أو حكومات تصريف أعمال، بوجود رئيس جمهورية أو بدون رئيس، وذلك بسبب أن السلطة صاحبة الأمر والنهي، هي منظومة الزعماء السياسيين المتحالفة مع رأس المال وهما يشكلان الدولة العميقة في لبنان ، ولها يعود رسم السياسات الإقتصادية والمالية والنقدية وفقاً لمصالحها ومنافعها ورغباتها ، إذاً لبنان لا يعاني فراغاً في الحكم .

أما لجهة الفدرلة والتهويل بها ، فالفدرلة كذبة متفق عليها لأن من ينادي بها هم أكثر الناس إستفادة من مغانم الحكم ومفاتنه ومفاسده ومغانمه ، فنحن لا نجهل هويتهم الطائفية وانتمائهم الطبقي ، ولكننا نعرف وهم يعرفون أنهم يملكون النصيب الأكبر من الرأسمالية اللبنانية التي كان لها النصيب الأكبر من فوائد عصبة الحكم ، والأرباح والثروات غير الممكن تحقيقها في أي مكان آخر في العالم ، إذ هل يقبل من ينادي بالفدرلة أن يوظف أمواله في أسواق العالم النقدية ومصارف العالم بفائدة نصف بالمئة مقارنة بـ 40% فائدة حصلوا عليها بطريقة غير مشروعة في لبنان دون حساب ورقيب .

لقد استطاعت عصبة الحكم (الدولة العميقة) من تحقيق المكاسب والمنافع والمغانم بطريقة غير مشروعة ونقلت عبئها الى كافة المواطنين من كافة الشرائع والطبقات وجعلت لبنان يتكون من طبقتين: طبقة الحكام وطبقة عامة الشعب، ذلك كما كان الحال في أوروبا قبل عصر النهضة والثورة حيث كان الشعب منقسماً بين طبقة النبلاء والإكليروس وطبقة عامة الشعب التي ثارت ووضعت رقاب الحكام في مقصلة العدالة.

مدير المحاسبة السابق في وزارة المالية

النقيب الأسبق لخبراء المحاسبة المجازين في لبنان

عضو مؤسس في المنتدى الإقتصادي الإجتماعي 

أمين صالح