مقال نشرته جريدة “الأخبار” تُعيد نشره صباح الخير البناء:
لا مجال للخلاف على أن الحديث في الفراغ الدستوري والفيدرالية في لبنان دقيق وشائك، بل شديد الخطورة، وله حساسيات مختلفة، أو متعارضة، عند من يحملون الجنسية اللبنانية، بخاصة في الوقت الراهن حيث لبنان في عين العواصف الداخلية والإقليمية والدولية.
ومن الأسلم للحديث في هذا الموضوع أن يحصل اعتماد النهج الذي يستند إلى نصوص أو وقائع لا خلاف مبدئياً عليها، مما يسمح بالاقتراب إلى الحدود الأقصى من التجرد.
يبدأ الحديث بطرح ثلاثة تساؤلات يعقبها ثلاثة تعليقات وينتهي بخاتمة.
1) هل الفراغ الدستوري هو نتيجة خلل دستوري أم خلاف خارجي مستعر وطاغ؟
عند استعراض تاريخ لبنان السياسي، يتبيّن أن لا نصوص دستور عام 1926، ويمكن تسميته بدستور قصر الصنوبر، ولا نصوص دستور 1990، ويمكن تسميته بدستور الطائف، كانت، أو هي، سبب الفراغ الدستوري، أو كانت، أو هي، السبب الحقيقي لحصول الاستحقاقات الدستورية في مواعيدها. بل السبب كان، ولمّا يزل، في كل الحالات هو العنصر الخارجي سواء بنفوذه الطاغي عن بعد أم بحضوره المباشر على الأرض.
ويمكن تقديم بعض الأمثلة بهذا الخصوص:
1- عند مرحلة الانتقال من منتصف الولاية المجددة للرئيس بشارة الخوري إلى عهد الرئيس كميل شمعون، يتبيّن أن المجلس النيابي -المنتخب في عام 1951 تحت نفوذ ضاغط لمصلحة الرئيس بشارة الخوري ليحسن الاستمرار في بقية ولايته المجددة- نفسه انتخب في عام 1952 خصمه السياسي الرئيس كميل شمعون وأيضاً كافأه بمنحه سلطة التشريع بمراسيم تشريعية، أمّا الحقيقة الكامنة خلف هذا الانتقال غير المنطقي والمفاجئ لهوى المجلس النيابي، فهو إحلال النفوذ الأميركي المتصاعد في المنطقة محل النفوذ الفرنسي المتهالك نتيجة الحرب العالمية الثانية.
2- عند مرحلة الانتقال من عهد الرئيس كميل شمعون إلى عهد اللواء الرئيس فؤاد شهاب، يتبيّن أن المجلس النيابي المنتخب في عام 1957 تحت نفوذ ضاغط لمصلحة التجديد للرئيس شمعون (إن شخصيات سياسية كبيرة سقطت في ذاك الانتخاب ومنهم كمال جنبلاط وصائب سلام وعبدالله اليافي وأحمد الأسعد)، نفسه انتخب في عام 1958 خصم الرئيس شمعون السياسي وهو اللواء فؤاد شهاب رئيساً للبلاد وأيضا كافأه بمنحه سلطة التشريع بمراسيم تشريعية. أمّا الحقيقة الكامنة خلف هذا الانتقال غير المنطقي والمفاجئ لهوى المجلس النيابي فهو ما نتج من هزات ارتدادية من الصعود الناصري وقيام الوحدة بين مصر وسوريا ومن ثم سقوط حلف بغداد عقب الانقلاب في العراق عام 1958.
3- نعم، لقد أجريت الانتخابات الرئاسية في مواعيدها أو وفق المقتضيات الدستورية في عام 1982 إنما تحت قوة الاحتلال الإسرائيلي الموجود على الأرض، وأيضاً في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف لقد أجريت الانتخابات الرئاسية في مواعيدها نتيجة النفوذ السوري الموجود عسكرياً على الأرض اللبنانية، أمّا بعد خروج الجيش السوري من لبنان في عام 2005 فقد حصل فراغ رئاسي امتد 18 شهراً بين نهاية المدة الممددة للرئيس العماد إميل لحود ووصول العماد ميشال سليمان إلى الرئاسة، ولم يتحقق إنهاء الفراغ الدستوري وانتخاب رئيس جديد إلا بفضل توافق دولي جرى في دوحة قطر في عام 2008.
وهنا يجدر الكلام عن فترة الحرب الممتدة من عام 1975 إلى عام 1989، فهي في الحقيقة حروب مركبة ومتداخلة بين معطيات ووقائع داخلية هي متشابكة ومتصارعة أحياناً وبين نفوذ وتصارع خارجي متعدد، إنما ما هو خارجي هو دائماً أقوى وأفعل مما هو داخلي، والدليل على ذلك أن كل محاولات الحوار الوطني التي جرت خلال سنوات هذه الحروب المأساوية قد فشلت، حتى بعد خروج القوى العسكرية الفلسطينية وقياداتها من لبنان في عام 1982، ومن هذه المحاولات، التي ضمت كل الأطراف اللبنانية الرسمية والمتقاتلة، مؤتمر جنيف في عام 1983 ومؤتمر لوزان في عام 1984، إنما لما جاءت اللحظات التاريخية العالمية القاطعة والملائمة انتقل النواب -المنتخبون في عام 1972 والممددون لأنفسهم حتى العام الذي أجريت فيه انتخابات نيابية في عام 1992- إلى الطائف في المملكة العربية السعودية وأقروا الاتفاق المعروف باتفاق الطائف ثم جسدوه دستورياً في عام 1990.
أمّا مضمون تلك اللحظات التاريخية العالمية آنذاك فهو سقوط الاتحاد السوفياتي وتوقف الحرب بين إيران والعراق وعودة مصر إلى الجامعة العربية عند مؤتمر القمة العربية في الدار البيضاء في عام 1989 حيث دخلت مصر ومعها حقيبة معاهدات كامب ديفيد والصلح مع الكيان الإسرائيلي وأيضاً حصل احتلال العراق للكويت ومشاركة الدول العربية عسكرياً لتحرير الكويت مع القوات الأميركية وحلفائها الغربيين وأيضاً التمهيد لمؤتمر مدريد للصلح مع الكيان الإسرائيلي الذي جرى عقده في عام 1991، أي دخل العالم في مرحلة القطب الأميركي الواحد ومحاولة تنفيذ استكمال ما يسمى الشرق الأوسط الجديد.
تلك كانت معظم التغيرات الاستراتيجية العالمية في تلك اللحظات التاريخية التي جرى فيها إيقاف الحروب المركبة في لبنان من خلال اتفاق الطائف، وذلك في حين كان لمّا يزل القسم الأكبر من جنوب لبنان محتلاً من قبل إسرائيل وهي كانت دوماً مصرة على عدم تنفيذ القرار 425، فتولت المقاومات اللبنانية مقاومتها حتى التحرير من غير شروط على لبنان في عام 2000، ما عدا أراض ما زالت تحت الاحتلال.
كل ما سبق من كلام هو بغرض تبيان أهمية وخطورة ونفوذ العناصر الخارجية على لبنان والمنطقة.
2) طالما أن حجم العنصر الخارجي هو ضخم ونافذ وطالما أن النصوص الدستورية لا تعالج الفراغ الدستوري وليست جازمة أو قاطعة في تنفيذ ما تتضمنه، فهل الفيدرالية هي الحل؟
1- الفيدرالية تجذّر العصبية الطائفية وتقوي التدخلات الخارجية بحيث تتحول الجغرافية اللبنانية إلى ميادين دامية ومدمرة.
2- الفيدرالية تجعل من كل طائفة جسماً اجتماعياً صلباً مدعماً بعقيدة طائفية سياسية واحدة ونهائية أبدية تجاه الداخل والخارج، بحيث يصبح التحاور والتفاهم مستحيلاً بين هذه الأجسام الاجتماعية المستحدثة، كما يستحيل على أي لبناني جرى تصنيفه مكرهاً في جسم ما أن يتحرر ويستقل برأيه أو عقيدته فيصبح تحت خطر أن ينبذ أو أن لا يجد لنفسه ملجأ يلجأ إليه.
وهنا تجدر الإشارة أيضاً إلى أن أي جغرافية فيدرالية في لبنان لن تخلو من أقلية مقابل أكثرية فيها، وما علينا إلا أن نستعيد تاريخ القائمقاميتين في جبل لبنان في القرن التاسع عشر ابتداء من عام 1840، إذ بقيت الفتن بينهما حتى اكتمل الانفجار الكبير في الفتنة الكبرى في عام 1860، وطبعاً تلك الأوضاع والتقسيمات هي دوماً تربة صالحة لضخامة التدخلات الخارجية وتصارعها في ما بينها.
3) في حال المسار الفيدرالي، ما هو الموقف السياسي حينئذ من خطر توطين اللاجئين الفلسطينين وخطر إدماج النازحين السوريين الذي ربما يتحول إلى خطر توطيني؟
إنّ الفيدرالية تمهّد للتقسيم ومن ثم للتوطين، وحينئذ ينزلق اللبنانيون نحو تنفيذ عكس ما جاء في مقدمة دستور الطائف لجهة نقل فعل النفي إلى فعل النعم، يقول فعل النفي في مقدمة الدستور لا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين، فيمكن أن يقول حينئذ فعل النعم إنه نعم توطين ونعم تقسيم ونعم تجزئة.
كما يحق القول إن من يسعى لتكون فيدراليته بمأمن نسبي من وجود لاجئين فلسطينيين أو نازحين سوريين، هو في حقيقةِ الأمر يحاول أن ينجو بنفسه ويتهرب من أعباء مسؤوليات رفض التوطين أو الإدماج سواء من الناحية السياسية أو غيرها من النواحي وهي كثيرة وبالتالي يرمي هذه الأثقال على غيره من اللبنانيين، وهذا الوضع ليس سليماً ولا آمناً ولا مستقراً على الإطلاق على كل الصعد وأيضاً خطر وجودي على الكيان اللبناني ككل.
في الختام
من الإدراك السليم والوعي والنضوج والحكمة أن لا يجري طرح مشروع تحت عنوان طرح علاج المرض أو البلاء وهو في حقيقته له جوانب مضرة وخطيرة فيزداد المرض مرضاً ويزداد البلاء بلاء، وهنا من المستحسن اقتطاع بيت شعر من قصيدة لأحمد شوقي، بغض النظر عن مناسبة تلك القصيدة، فهذا البيت فيه حكمة وبلاغة فائقتان، يقول هذا البيت:
«داويت متئداً وداووا طفرة
وأخف من بعض الدواء الداء»
عصام بكداش