المعلومات والنزاهة

جميعنا يعرف أن المعلومات لا تعني المعرفة، مع أنها المادة الأولية لإنتاج المعرفة، وتحويل المعلومات إلى معرفة يحتاج إلى وسيلة هي، اختصاص، ونوايا خيّرة متينة أخلاقياً وقانونياً، لأن هذا التحويل هو فعل علني بالضرورة، لأن هناك مستفيدين ومتضررين من هذا التحويل، و«الدولة» هي إحدى أهم الوسائل لتحويل المعلومات إلى معرفة يمكن ممارستها وتجريبها والقول في صلاحها وفسادها، حسب معايير المصلحة المجتمعية، وكل تحويل لا يتحمل العلانية هو غش وجريمة، مع العلم أنه لا أحد عاقل يسعى إلى إعلان أو إفشاء الأسرار العسكرية المحددة بالقوانين، ولا الخطط الاقتصادية الاستراتيجية التي تسعى للمنافسة من أجل البقاء، وعليه يمكننا النظر إلى الشفافية، كواحدة من المواد الأولية التي تصنع منها الدولة، فالعماء المعلوماتي يلغي النقد ويولد الانتقاد، ولا مسؤولية يمكن أن تتحدد بناء على انعدام المعلومات، لذلك تبادر الدولة الحقيقية للمجاهرة، بحرية الحصول على المعلومات وتبادلها، كمحاولة للحصول على نقد حقيقي يوازي حقيقتها، كعامل لتفادي المنزلقات الخطيرة، وأيضاً، لاكتشاف عمليات التحويل إلى معرفة إذا كانت مفيدة للشعب صاحب المصلحة بالبقاء والرفاه. وهنا تبدو طامة كبرى، في ادعاء وجود دولة لا يعرف محكوموها بما تقوم به، مما ينزع عنها صفة المسؤولية، عن ما تقوم به، وهذه ليست من مقومات الدولة المسؤولة عن حياة مجتمع بأكمله، التي تفترض شرط تعجيزي إذعاني على شعبها، الذي لا ترى فيه الأهلية للمعرفة، مع أن قيمتها هي نفسها من قيمته مجتمعها في حال نجاحه بالبقاء حسب نواياها وخططها وإعلان مسؤوليتها الأخلاقية والقانونية.

والشفافية هي المصارحة والوضوح، وهي عكس السرانية في مجال السياسة والإدارة والقانون، وهي أيضاً عكس المخاتلة والتمويه والفهلوة والقراءات المواربة والذرائعية لتمرير التصرفات الحكومية، ففي المقام الأخير سوف يؤدي انعدامها أو تقليصها، إلى تدفيع المجتمع أثمان إضافية، ربما تكون قاصمة لظهر هذا الاجتماع، ومن هنا وجب على كل فرد عضو في أي مجتمع المطالبة بحقه بالشفافية. لذلك لا تبدو الشفافية مجرد شعار تنعقد سلاسل الدبكة احتفالاً به، بل هي تنظيم حقوقي قانوني، ضمن مقاييس ومعايير تهدف إلى تعزيز الوضوح لخدمة الرأي العام، وإبعاده عن التشكك دون علم، صحيح أن التشكك دون علم هو تصرف أرعن، ولكن مانع الرعونة هنا هو الشفافية.

لقد عانى السوريون لفترة طويلة من إنعدام الشفافية، لا بل ما تحت صفرها، وهذا يظهر في قضايا الاعتقال والإخفاء وتغطية الجرائم والفساد (على الأقل وكمثال)، التي ساهمت في فرط الاجتماع السوري حول قيم المواطنة وممارستها، هذا الانفراط يمثل هزيمة لعقد اجتماعي واهي تمت فبركته في عتمة كالحة، أنت ذلك الهذيان الاجتماعي الذي نحصد نتائجه الآن، وفي حال الاستمرار به سوف نقارب الفناء قريباً، فالأنموذج الذي أوصل إلى هذه الحال، من العار تكراره، وعلينا تحمل مسؤوليته كمتعاقدين مع دولة، لا تحتكر النزاهة باسم السرية، فالنزاهة ليست منحة أومنّة من أحد، ولا تعتبر تبرعاً أو عملاً خيرياً، إنها واجب يحاسب عليه القانون، لإن الحق والواجب وجهان لعملة واحدة، وفعل الصواب هو حق وواجب، وعدم ممارسة الخطأ لا تعني البتة تميزاً أو مكرمة، هذه النزاهة لا يمكن تفعيلها إلا بوجود الشفافية، فأية دولة تنقصها النزاهة مع متعاقديها، هي دولة كاتمة للمعلومات يتساوى فيه الفساد مع النزاهة، لذلك تلجأ الدولة إلى المؤسسات (وليس إلى الأجهزة) لتحويل المعلومات إلى معرفة في ممارسة الحكومة الرشيدة، وعليه يكون انعدام الشفافية، هو حكم إعدام للدولة بتحولها من لا معلومات، إلى لا دولة، فمهمتها التأسيسية هي تحويل المعلومات إلى معرفة.

لم يعرف السوريون ماذا حصل في هزيمة 67 ولا بعدها، ولا يعرفون الآن موضوع جثة كوهين ووثائقه إلا معلومات من العدو، ولا يعرفون الكثير أو حتى القليل عن مستقبلهم القريب، وما الذي حصل في الفترة القريبة الماضية، إلا معلومات غير موثقة من جهات أجنبية، فكيف على المواطن أن يضبط تصرفه قانونياً، كي لا يقع في متاهة مواقفه، كيف يستطيع أن يخطط لمستقبله، في دولة تطالبه بالمشاركة في بناء «الوطن»؟. مرة أخرى المسألة ليست أحجية فالقوانين التي تنظم الشفافية معروفة وممارسة في الكثير من بقاع الدنيا، وليس هناك أدنى خصوصية تتحول إلى سبب من أسباب تجاهل الشفافية أو منعها.

الدولة هي من تقرر مصائر الناس وسعادتهم، وهم معنيون بإبلاغها ومناقشتها بما يناسبهم كمجتمع تجمعه المصالح وليس أي شيء آخر على الإطلاق، ورعاية هذه المصالح الجمعية من أدنى واجبات الدول، والشفافية هي ضمانة لإداء المؤسسات لواجبها، الذي يخدم طرفي العقد الاجتماعي.

نجيب نصير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *