الصوم وجذوره التاريخية الحلقة الثانية ـ الفصل الثّالث: الأبعاد الأنثروبولوجيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة للصوم

لا شكّ أنّ الصّوم هو ظاهرة متعدّدة الأوجه، كما ويتجاوز كونه طقساً دينيّاً ليلامس الجوانب العميقة في البنية الإنسانيّة، وعليه سنحاول من خلال هذا الفصل أن نلقي الضّوء على الأبعاد الأنتثروبولوجيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة للصّوم. مع تحليل مقارن بين الحضارات القديمة والأديان التوحيدّية، وإبراز كيف أنّ الصّوم نجح في بناء هوية مجتمعيّة وتنظيم الموارد الاقتصاديّة وتعزيز التّماسك الاجتماعيّ عبر العصور التّاريخيّة.

 1 – الأبعاد الأنثروبولوجيّة للصّوم

الأنثروبولوجيا تدرس الصّوم على أنّه طقس انتقاليّ وآلية رمزيّة، تعيد تنظيم العلاقة بين الفرد والمجتمع، هنا ووفقاً لما اعتبره أرنولد فان جينيب[1] (1873-1957) في كتابه طقوس العبور حيث يعتبر أنّ الصّوم يُستخدم في العديد من الثّقافات لتمييز مراحل الحياة مثال: البلوغ، الزّواج، الموت. من هنا نرى في مصر القديمة مثلاً كان الصّوم جزءاً من طقوس التّحضير للعالم الآخر، بينما في القبائل الأفريقيّة، يرافق الصّوم طقوس البلوغ كتعبير عن نضج الجسد والرّوح.

ومن ناحية الهويّة الجماعيّة، يعزّز الصّوم الانتماء إلى جماعة دينيّة معيّنة فعلى سبيل المثال لا الحصر، يصبح صوم شهر رمضان في الإسلام مركزاً لهوية المسلمين العالميّة، حيث يشترك هؤلاء في تجربة روحيّة واحدة.

 The Ritual process – Structure and Anti Structure  

أما فيكتور تيرنر (1920-1983) ومن خلال كتابه. يتحدث عن التّطهير الرّمزيّ والذي يمثّل الامتناع عن الأطعمة هي عمليّة تنقية للجسد والرّوح من الشّوائب الماديّة والمعنويّة، كما في الكفّارة اليهوديّة، أو صوم التّطهير في الزّرادشتيّة.[2] 

2 – الأبعاد الاقتصاديّة للصّوم

يبدو أنّ للصّوم تأثيرات كبيرة على الجانب الاقتصاديّ خاصّة في المجتمعات الزّراعيّة والتّجاريّة، ففي الحضارات القديمة كما مرّ معنا في الفصل الأوّل ارتبط الصّوم بالزّراعة والحصاد ففي بلاد ما ين النّهرين كان الصّوم يمارَس في فترات الجفاف كوسيلة لترشيد الاستهلاك بهدف الاستعداد لندرة المحاصيل.

أما في المسيحيّة، حيث تنخفض مبيعات اللّحوم مما يعكس سلباً على عملية الاستهلاك وعلى القطاع الزّراعيّ بشكل خاص.

أمّا في الإسلام فتزداد مبيعات المواد الغذائيّة والسّلع الاستهلاكيّة قبيل الإفطار، بما يعكس على الأسواق من نشاط ملحوظ.

كما ويساعد الصّوم بإعادة توزيع الثّروة من حيث الزّكاة أو التّبرّعات للفقراء ويخفّف من معاناتهم.

3 – الأبعاد الاجتماعيّة للصّوم

يُعيد الصّوم بناء الرّوابط الاجتماعيّة ويرسّخ مبادئ التّكاتف والتّآزر ففي ممارسة طقس الصّوم يتذكّر الأغنياء معاناة الفقراء وهذا يعزّز التّعاطف وما موائد الإفطار سوى فرصة لتعزيز الرّوابط الأسريّة المجتمعيّة. كما يفرض الصّوم نظاماً زمنيّاً صارماً مثل مواعيد الإفطار والسّحور وينظّم حياة المجتمع اليوميّة، كما ويعزّز حالة الانضباط الجماعيّ.

أما ما يميّز الصّوم في الجانب الاجتماعيّ هو تذويب الفروقات الطّبقيّة ولو مؤقتاً، حيث يشارك الجميع في الامتناع عن تناول الأطعمة، بصرف النّظر عن الثّروة أو المكانة الاجتماعيّة.

أ – الصّوم في العلم الحديث

اليوم، ومع تقدّم العلم، يبدو أن للصّوم فوائد صحيّة في الأبحاث الحديثة، فهل يمكن أن يكون الصّوم أكثر من مجرد طقس دينيّ؟

.  أو الصّيام المتقطّع، هو الصّوم عن تناول الأطعمة لفترات محدّدة Intermittent Fasting

يساعد في تقليل الالتهابات وتنشيط عمليّات التجدّد الخلّوي. (أوتوفاجي)[3].  وهو ذات المبدأ الذي أُعتمد في بعض الحضارات القديمة. وفي هذا السّياق يوضّح الطّبيب اليابانيّ «يوشينوري أوسومي» والحائز على جائزة نوبل للطّب سنة 2016، أنّ الصّوم يحفّز آلية «الالتهام الذّاتيّ» التي تساهم في إصلاح الخلايا التّالفة ومنع الشّيخوخة المبكرة[4]

يبدو أيضاً وفي السّياق نفسه أنّ جامعة «هارفارد» أجرت دراسة عن الصّوم وتأثيره على الصّحّة النّفسيّة، وتبيّن أنّ الصّوم يساعد في تحسين «إنتاج النّاقل العصبيّ» وهو المسؤول عن تعزيز وظائف الدّماغ وتقليل خطر الإصابة بالاكتئاب[5].

بمعنى أخر، إذا كان الصّوم في العصور التّاريخيّة القديمة يُمارس للتّطهير الرّوحيّ، فإنّ العلم الحديث اليوم يثبت أنّ هذا التّطهير يمتدّ ليشمل الخلايا والدّماغ وصولاً إلى إطالة العمر.

ب – التّحليل المقارن

في بلاد ما بين النّهرين ومصر القديمة، ارتبط الصّوم بإدارة حكيمة للموارد بهدف تجنّب الغضب الإلهيّ خاصّة خلال الأزمات.

في اليونان القديم وبلاد الرّومان، تحوّل الصّوم إلى أداة لتعزيز الحكمة الفرديّة، حيث كان سقراط وهيبوقراط يوصيان بالصّوم كوسيلة لتحسين الصّحّة البدنيّة والعقليّة.

أمّا في الصّين، فكان الصّوم جزءاً من فلسفة الطّاوية حيث ارتبط بالصّلاة والتّنفّس العميق بهدف ترويض الرّوح.

أمّا الصّوم في الأديان التّوحيديّة؛ ففي اليهوديّة يُعتبر يوم الغفران أهمّ أيّام الصّوم، حيث يمتنع اليهود عن الأطعمة والأشربة بهدف التّوبة والتّقرّب من الله.

وفي المسيحيّة، يمارَس الصّوم كجزء من طقوس الكفّارة والتّوبة مثل صوم الـ 40 يوماً قبل عيد القيامة.

أمّا في الإسلام، فيرتبط الصوم خلال شهر رمضان والذي يهدف إلى تعزيز التّقوى والرّوحانيّة. 

أما اليوم يُفسّر الصّوم في سياقات مختلفة أيضاً مثل الحميّات الصّحّية، أو السّياسيّة مثل الإضراب عن الطّعام (غاندي نموذجاً) وهنا يُمكن القول أنّ الصّوم أصبح يبرز النّاحية الإنسانيّة منه، كما يمكن أن يكون وسيلة اجتماعيّة.

ج – الصّوم كأداة للنّفوذ الدّينيّ والسّياسيّ

هل كان الصّوم دائماً طقساً روحانيّاً؟ أمّ أنّه كان أيضاً وسيلة للتّحكم والتّأثير السّياسيّ؟

في الحضارات القديمة خاصّة مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين، كان الكهنة يمارسون الصّوم ليس فقط لأسباب دينيّة، بل أيضاً لإظهار نقائهم وقدرتهم على التّواصل مع الآلهة، ممّا كان يؤدّي إلى زيادة في سلطتهم على المواطنين.[6]

ماذا عن الحضارات الوسطى؟ هل تعلم أن في أوروبا خلال العصور الوسطى فرضت الكنيسة صياماً صارماً، ليس فقط لتعزيز التّقوى، بل أيضاً كأداة لضبط المجتمع وترسيخ السّلطة الكنسيّة.[7]

بمعنى آخر، لم يكن الصّوم دائماً خياراً حرّاً، بل أُستخدم وعبر كافّة العصور التّاريخيّة كأداة لإظهار السّلطة وفرض الانضباط وصولاً إلى التّلاعب بالجماهير

النّتائج العلميّة

1 – ممارسة الصّوم هو طقس قديم يرجع إلى الحضارات القديمة والتي سبقت ظهور الأديان التّوحيديّة.

2 – الصّوم في اليهوديّة هو وسيلة للتّوبة، أمّا في المسيحيّة فهو مرتبط بآلام السّيّد المسيح، أمّا في الإسلام هو عبادة روحيّة واجتماعيّة

3 – يساعد الصّوم في تشكيل الهويّة الثّقافيّة والدّينيّة للمجتمعات، كما ويعزّز قيمة التّضامن

4 – يشتبك الصّوم مع البُعد الاقتصاديّ، ويؤثّر على الاستهلاك والإنتاجيّة خاصّة في المجتمعات الإسلاميّة.

5 – مع تطوّر ممارسة طقس الصّوم، أصبح يأخذ طابعاً أكثر تنظيماً في الدّيانات التّوحيديّة إذا ما قورن بالحضارات القديمة.

التّوصيات

ضرورة دراسة تأثير الصّوم على الصّحّة النّفسيّة والجسديّة بناء على قواعد علمية حديثة. والبحث عميقاً في تحليل الصّوم من منظور أنتثروبولوجيّ يهدف إلى تحديد الهوية الدّينيّة عبر الحضارات، ثمّ تعزيز وعي الصّوم غير الدينيّ ومدى تأثيره اقتصاديّاً، ثقافيّاً، اجتماعيّاً، سياسيّاً وحتى في جانب الفنون والأدب وعلاقته بالأبداع، وهنا يتبادر إلى ذهننا السّؤال التّالي: هل الصّوم فعلاً ألهم الفنّانين والمبدعين عبر التّاريخ؟

في هذا السّياق تناول الكاتب الرّوسيّ «فيودور دوستويفسكي» في روايته « الإخوة كارامازوف» فكرة الصّوم كوسيلة للتّطهير الرّوحيّ وصولاً إلى التّفكير العميق، عندما كان الرّاهب «زوسيما» يجمع بين الامتناع عن الطّعام وتأمل الذّات.

وإذا ذهبنا نحو السّينما سنجد فيلم الصّمت للمخرج مارتن سكورسيزي، والذي يبيّن كيف كان الصّوم جزءاً من التّجربة الرّوحية القاسية للمبشّرين المسيحيّين في اليابان. وفي فيلم آخر

The Passion of The Christ (2004).

والذي يبيّن أيضاً كيف كان الصّوم عنصراً أساسيّاً في حياة السّيّد المسيح طِبقاً للعقيدة المسيحيّة طبعاً.

تأكيد آخر على أنّ الصّوم لم يكن مجرد طقس دينيّ فقط، بل كان مصدر إلهام أدبيّ وفنّيّ، يُستخدم لاستكشاف أعمق المعاناة، التّطهير، والهويّة الرّوحيّة.

الخاتمة

انطلاقاً ممّا تقدّم، يتبيّن معنا أنّ الصّوم هو ظاهرة إنسانيّة تمتدّ عبر العصور التّاريخيّة، منذ نشأة الحضارات القديمة إلى يومنا هذا خاصّة مع تجليه المنظّم في الأديان التّوحيديّة.

على الرّغم من تنوّع الصّوم ما بين دينيّ، اجتماعيّ، صحّيّ، نفسيّ، فلسفيّ أو سياسيّ، إلّا أنّ الأساس يبقى على أنّه أداة للتّطهير الذاتيّ، وتقوية الإرادة الفرديّة وتعزيز الرّوابط الاجتماعيّة.

العمل على فهم الصّوم من ناحية علم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا يكشف حقيقة عن أبعاده المختلفة والتي ربما تتجاوز البعد الدّينيّ، وهذا يجعل دراسته أكثر ضرورة بهدف فهم تطوّر الإنسان ومعتقداته الدّينيّة.

إذاً الصّوم ليس مجرّد طقس دينيّ، بل هو تجربة إنسانيّة عميقة في التّاريخ، تعكس حاجاتنا المستمرّة للبحث عن الهدف والسّموّ الرّوحيّ.

وبناء عليه، فإنّ الصّوم هو نهج للحياة سواء عبر الصّوم المتقطّع، التّأمل الذّاتيّ، أو حتّى الاحتجاج السّياسيّ.  هل يمكن أن يكون الصّوم في المستقبل مفتاحاً لفهم أكثر عمقاً لعلاقة الإنسان بنفسه ومجتمعه؟


 [1] فان جينيب، أرنولد – طقوس العبور – Rite of passage – Leroux – 1910

[2] Turner, Victor – The Ritual process – structure and anti-structure – 1969 – Aldine transaction

[3] Autophagy – allows your body to break down and reuse old cell parts so your cells can operate more efficiently>

[4] OhsumiK Y – 2016 – Autophagy in cells and disease – Nobel prize in Physiology or Medicine

[5] Longo,V.D. And mattson, M.P – 2014 – Fasting: Molecular Mechanisms and clinical applications. Cell metabolism

[6] Breasted, James (1865-1935) – the development of religion and though in Ancient Egypt. University of Chicago press 1906

[7] Brown, Peter (born 1935)- The Body and society: Men, Women, and sexual renunciation in early Christianity- Colombia University press 1988

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *