- الزمن الصحراوي
على عكس ما هو شائع من أننا نعيش عصر المدن البرجوازية، فثمة ما يشي بالعكس أيضاً ويأخذنا إلى ما يمكن وصفه بزمن أو عصر الصحراء وعلى كل المستويات:
المستوى الأول، مستوى الثروات الجديدة والتي تفسر جانبا من التكالب الأطلسي (الأمريكي – الأوروبي) على المنطقة العربية، وعودة الاستعمار القديم والتدخلات العسكرية والسياسية المباشرة.
فمن اليورانيوم إلى الطاقة الجديدة إلى الكوارتز وأسرار الرمل وكنوزه المختلفة..
وهو ما تزخر به صحراء الأنبار والصحراء الليبية وصحراء تدمر السورية ومعان وسيناء.
المستوى الثاني، ما يسميه المفكر المغربي، محمد عابد الجابري، بالزمن (الصحراوي) ويتعلق بنوعين من (المقاربات) العرفانية والصوفية للكون والوجود، وبعض التأويلات السلفية الجافة وتعبيراتها الايديولوجية المسلحة التكفيرية التي تنقل بطائرات الأطلسي وتسهيلاته إلى المناطق المستهدفة..
ويشار هنا إلى أن هذه التعبيرات هي امتداد لموجات صحراوية سابقة اجتاحت أعالي الشرق وخاصة بلاد الشام والعراق على دفعات متفاوتة في رسالتها ودورها، فمن الإيلاف إلى بدو السهوب الاسيوية (المغول) إلى بدو الجبال (الاتراك) إلى الاخوان القادمين من العيينة والدرعية.
وهناك إشارات نظرية أخرى تحتاج إلى وقفة بحد ذاتها وكان الفيلسوف الألماني شبنغلر سباقا لها حين تحدث قبل قرن عن عصر قادم تتقاطع فيه همجيتان في الغرب والشرق ضد الإنسانية: الهمجية العليا والهمجية الدنيا..
المستوى الثالث، مستوى مستوحى من عوالم الشعر والرواية والدراما الشرقية، فمن عودة (الشعر الصحراوي) وتخصيص مسابقات وفضاءات واسعة له إلى الدراما الصحراوية، إلى ازدهار رواية الصحراء والمخطوطات السرية والانثروبولوجيا المرتبطة بها (كويلو- الكوني – منيف…وغيرهم).
- حرب الصحاري على حواضر الأمة
على مدار التاريخ العربي في حقبتيه ما قبل الإسلام وما بعده، لم يؤسس مركز واحدا من مراكز الأمة خارج حواضرها التاريخية المعروفة.
فقبل الإسلام، ازدهرت حواضر وحضارات عظيمة للأمة في مصر وبلاد الشام وبلاد الرافدين واليمن (من بناة الأهرام إلى الأنباط ومخترعي الأبجدية في أوغاريت على الساحل السوري، إلى سومر وأكد وبابل والآشوريين، إلى حضارات اليمن المتعاقبة).
أما بعد الإسلام، فلم تتوطد الرسالة الإسلامية في الصحاري بل في مراكز الأمة: دمشق الأموية ثم بغداد العباسية ثم القاهرة في حقبها المتتالية: الفاطميون والأيوبيون والمماليك وعهد محمد علي وابنه ابراهيم باشا ثم عهد جمال عبد الناصر في التاريخ الحديث.
وعلى مدار التاريخ ثانيا، قبل الإسلام وبعده، لم تتوقف حرب الصحاري على الحواضر من الهكسوس إلى الخوارج إلى الوهابيين وظلالها وامتداداتها وأشكالها (الحالية) ومن نهب القوافل وطرق التوابل والحج وغيرها لتغذية وتزويد أطرافها بالمال والقوة، إلى سرقة نفط الأمة وآثارها وبيعها في الأسواق العالمية والعثمانية والصهيونية في أيامنا هذه.
وعلى مدار التاريخ، ثالثا، لم تفلح الصحاري في أن تكون مركزا سياديا من مراكز الأمة وكل ما تفعله هو استنزاف المراكز الحضارية أو تدميرها لصالح الغزاة الأجانب…
وعلى مدار التاريخ، رابعا، كانت مراكز الأمة تعاود النهوض والتجلي والتبدي وتناوب الرسالة من جديد في دمشق أو القاهرة أو بغداد أو الجزائر، ولعل اليمن تفتح من تحت الأنقاض صفحة جديدة.
هكذا نفهم ما شهدته مصر بعد الانقلاب الساداتي وخيوطه الصحراوية وهكذا نفهم الحرائق التي تشتغل ضد كل حواضر الأمة ومراكزها التاريخية باسم الإسلام الأمريكي والفوضى اليهودية الهدامة. وهكذا نفهم الاصطفافات الايديولوجية بين مذاهب اجتهادات التصحر الوهابية الجافة التكفيرية، وبين اجتهادات الحواضر وتأويلاتها من التموزية السورية والايزيسية في وادي النيل قبل الإسلام إلى المعتزلة وابو حنيفة والإمام جعفر الصادق إلى كتابات أنطون سعادة والأرسوزي وسمير أمين وفلسفة الثورة والميثاق لجمال عبد الناصر.
د. موفق محادين