كتب سركيس أبو زيد في جريدة الديار:
يشهد المسرح السياسي اللبناني «بازار» انتخاب رئيس جمهورية، واجتهادات متناقضة حول صلاحيات الحكومة وقرارات القضاة، مع احتمالات فراغ دستوري وفوضى.
وسط هذا الضجيج يواجه لبنان تحديات مصيرية تفرضها حقائق بدأت تتمظهر في الواقع، تهدد وجود الكيان بعد أن سقط النظام الى ملعب وساحة وحلبة.
يواجه النظام الطائفي في لبنان خطراً وجودياً، وهو في حالة عجزٍ وفساد، مما أجهض أي حلم لشعبه في التغيير مع أنه البلد العربي الرائد في تنظيم الاحتجاجات والاعتصامات والاضرابات. الشعب في لبنان متذمر من السياسة الطائفية التي تحكم البلد، ويصر على المحاولة بين الفينة والأخرى عبر تأكيد رفضه للنظام الطائفي ويفشل. ويبقى السؤال المُلح: لماذا لا يمكن تغيير الحالة اللبنانية؟
لبنان أسير تركيبته
سبق وحصلت محاولات لتغيير المعادلة في لبنان وقد باءت بالفشل. ونجحت جزئياً في تعديل ما، أو تسريع ما، لكن دون حصول تغير بنيوي أو جذري أو جدي. والسبب الفعلي هو أن لبنان محكوم بحجمه وتركيبته وموقعه الجيوسياسي، وهو أسير أوضاعه الداخلية وما يحيط به.
قراءة سريعة تظهر ما يلي:
1)- فائض القوة الإقليمية أجهض من حلف بغداد إلى الثورة الناصرية وصولاً إلى تدخلات البعثيين العراقيين والسوريين، بالإضافة إلى تعاظم نفوذ الثورة الفلسطينية والإغراق المالي العربي المتنوع.
2)- فائض قوة الجيش اللبناني أوصلت في أحسن الحالات قائد الجيش إلى الرئاسة، لكنها فشلت في استمرار حكم العسكر ولو عبر المكتب الثاني وبعض الأجهزة إلى حين. بالإضافة إلى فشل محاولات الانقلاب من الحزب القومي إلى حركة الأحدب إلى جيش لبنان العربي وجيش لحد، وغيرها من المحاولات الفاشلة والمحدودة.
3)- فائض القوة المالية التي امتلكتها بعض المصارف ورجال الأعمال، وكانت ذروتها مع الشهيد رفيق الحريري، لكنها لم تتمكن من استمرار فرض سيطرتها ونفوذها رغم الدعم العربي والدولي لها.
4)- فائض القوة الإسرائيلية عبر تدخلاتها المتنوعة، من التحالف مع فريق لبناني إلى الاجتياح، إلى الدعم المتنوع، لكنها لم تتمكن من تغير المعادلة اللبنانية وظل تأثيرها محدوداً ولمرحلة معينة.
5)- فائض العنف من ثورة أعلنها الحزب القومي في 1949 وأجهضة بسرعة إلى أحداث 58 إلى حركات عصيان مسلح محدود، دلت على أن العنف والثورة ليس له طريق سالك في لبنان.
6)- فائض المقاومة نجح في التحرير وتمدد في المنطقة لا سيما في سوريا، لكنها ما تزال أسيرة المعادلة اللبنانية التي طوقتها وحدّت من تأثيرها ودورها في تغير المعادلة اللبنانية الصعبة.
7)- فائض سلاح المليشيات، أفرز حروباً أهلية دورية داخلية، وأوصل أثرياء الحرب إلى السلطة، لكنه غير قادر على التغيير والتعديل والتبديل.
باختصار فائض القوة في لبنان لا يُصرف في التغيير.
عقبات حركة التغيير
واليوم وبعد كل التطورات مازال يطرح سؤال: هل التغيير ممكن في لبنان؟
كثير من القوى الوطنية تُجمع على فشل الدولة اللبنانية الطائفية، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن بناء نظام سياسي جديد أصبح قاب قوسين أو أدنى. لأن الوضع في لبنان مرتبط بعدة مسائل تؤثر على حركة التغيير المنشود، منها:
1ـ الصراع الإسرائيلي اللبناني والخلاف على الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية لمواجهة أطماع الكيان الإسرائيلي بالأرض والموارد اللبنانية.
2ـ بعد أن كان هناك شبه توافق على معادلة الجيش والشعب والمقاومة، أصبحت هذه المقولة نقطة خلافية بين اللبنانيين، وبالتالي كل خلاف حول المقاومة ينعكس على إمكانية التغيير في لبنان.
3ـ بعد التوافق اللبناني لفترة معينة من الزمن على وحدة المسار والمصير بين لبنان وسوريا، أصبحت العلاقات بين البلدين نقطة تجاذب بين اللبنانيين الذين انقسموا أمام ما يحدث في سوريا، مما ينعكس على موازين القوى وإمكانية التغيير في لبنان.
4ـ رغم وصول النظام الطائفي الفاسد إلى مأزق، ما زال هناك غياب لرؤية وطنية مشتركة تكون قاعدة لأي تغيير، لذا ينجح النظام في إفشال أي مشروع للتغيير كلما لاح في الأفق. وإغراق البلد وجرها إلى حروب ونزاعات طائفية وصراعات مذهبية تجهض أي محاولة للتغيير.
لبنان يواجه مصير الكيان
يواجه لبنان تحديات مصيرية، منها:
1) سقوط النظام الإقليمي العربي الرسمي ودخوله في مرحلة انتقالية تودع الماضي من دون أن يتبلور المستقبل.
2) سقوط اتفاقية سايكس ـ بيكو التي رسمت الحدود السياسية لدول الهلال الخصيب في العقد الثاني من القرن العشرين، حيث ظهر لبنان بحدوده الحالية العام 1920. الحدود السياسية بدأت تهتز بين الكيانات وجوارها. وبعد نهاية قرن على نشوء الكيان اللبناني بدأت الأحداث تكسر الحدود السياسية بعد أن اعترفت بها الدول كحالة قانونية دولية، والحركات القومية كأمر واقع. لكن من جهة فإن «إسرائيل» تهدد حدود لبنان الجنوبية بمطامعها التوسعية في الأرض والموارد، ومن جهة أخرى تحوّلت حدود لبنان الشمالية الشرقية الى مساحات مفتوحة مستباحة للسلاح والمقاتلين والإمدادات والبضائع .
إن مصير الكيان اللبناني على المحك، ويرجح أن وجوده بات مرهوناً بالمعارك والتسويات الدائرة ونتائجها، وبالتالي قد تعدل حدوده رغم مضي قرن على ترسيمها. فلبنان على أبواب تغييرات جوهرية قد ترسمها جماعات وقوى فاعلة على الأرض أو يكون أمام مأزق سايكس بيكو جديد ترسمه الدوائر الإقليمية والدولية. منها مشاريع تقسيمية ومناطق أمنية.
3) سقوط اتفاق الطائف بسبب عدم القدرة على تطبيقه كاملاً.
تحديات ونهايات
هذه الحالة تفتح الباب واسعاً أمام أسئلة ومعطيات وتحديات مستجدة تواجه لبنان من دون جواب موحّد ومحدّد منها:
أ ) فائض المقاومة ضد «إسرائيل» أخرجها من حدود الكيان، فغدت المقاومة في لبنان نموذجاً للانتفاضة في فلسطين، وسنداً للمقاومة في الجولان (إذا اندلعت)، وامتداداً للمقاومة في العراق وحلماً للمعارضة في الأردن، وكلما اشتد عود المقاومة في لبنان أصبحت نواة لجبهة شرقية توحّد قوى الممانعة والمقاومة والتغيير في المنطقة، متجاوزة الحدود والحواجز وطاقة توحيد وتثوير في جبهة مقاومة على امتداد المشرق العربي بعيداً عن الحدود الرسمية والتخوم الافتراضية.
ب) وبالتوازي مع فائض قوة المقاومة يواجهها فائض قوة الثورة المضادة أو فائض العداء لسلاح المقاومة وروح الممانعة تحت شعار الاستقرار والازدهار على قاعدة التطبيع والسلم مع «إسرائيل». مما شكل جبهة محاصرة المقاومة، وأوجد مواجهة مفتوحة بين المقاومة وأعدائها. وهكذا أصبح التغيير في لبنان مرتبطاً حكماً بموازين القوى في المنطقة المحيطة به.
هذه الأسئلة الوجودية من يجيب عنها في لبنان؟
القوى القومية والتقدمية غارقة في أزمة أحزابها وتنظيماتها، وتعيش حالة مخاض ونقد ذاتي ولم تبلور بعد مشروعاً جديداً فاعلاً. الجماعات الدينية تلقت التحديات وتجاوبت معها بأشكال ومستويات مختلفة.
التحولات الاستراتيجية في المنطقة والمنعكسة حكماً على لبنان تفرض تحدياً على لبنان ومحيطه يلخصها سؤال مصيري: إلى أين؟ ويحمل في طياته إمكانية نهاية الجمهورية.
أمام كل هذه الصعوبات يبقى الاحتمال الوحيد لحصول تغيير في لبنان، هو تأسيس كتلة وطنية شعبية لها رؤية وبرنامج سياسي للإنقاذ، ذات نفس طويل، تُقدم حلولاً للأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولها موقف واضح من المقاومة والاستراتيجية الدفاعية، وتعمل على إعادة بناء العلاقات السورية اللبنانية على أسس سليمة، ولها قيادة عملية ونزيهة وبرنامج واضح، من أجل إعادة التأسيس وبناء جمهورية جديدة. هل هذا حلم أم ممكن؟ أو النهايات على الأبواب؟