الصّوم وجذوره التاريخية

المقدمة

يُعتبر الصّوم من أقدم الطّقوس الدّينيّة والرّوحانيّة التي مارستها الشّعوب عبر العصور التّاريخيّة المتعددة في مختلف الحضارات. كما ويُعتبر هذا الطّقس أيضاً وسيلة للاتّصال أو التّقرّب من الله، هكذا حصل في حضارات الشرق الأدنى والشرق الأقصى، ومع تطوّر الفكر الدّينيّ، تحوّل هذا الصّوم القديم إلى ممارسة أكثر تنظيماً خاصّة في الأديان الشّموليّة اليوم، لكن يبدو أنّه تمّ الاحتفاظ بجذوره القديمة.

 إذاً، الصوم هو ممارسة إنسانيّة قديمة، تتجاوز البعد الدّينيّ لتشمل أبعاداً اجتماعيّة، صحيّة، فلسفيّة، وروحيّة. يُعرف الصّوم بأنّه الامتناع الجزئيّ أو الكلّيّ عن تناول الطّعامِ والشّراب لفترة محدّدة، وهو طقس مارسته الشّعوب القديمة لأسباب مختلفة مثل: التّقرّب من الله، تعزيز قوّة الإرادة، ووسيلة للشّفاء والتّأمّل.

أسباب ممارسة الصّوم تاريخيًّا

1 – الدّينيّة والرّوحيّة: حيث أُعتبر الصّوم وسيلة تقرّب إلى الله، وتطهيراً للنّفس والجسد.

2 – الأسباب الاجتماعيّة: هو نوع من التّضامن الاجتماعيّ، وإظهار التّعاطف مع الفقراء.

3 – الأسباب الصّحّيّة: تبيّن لدى الثّقافات الهنديّة والإغريقيّة مثلاً أنّ فكرة الصّوم ارتبطت بفوائد صحية إذ اعتقدوا بأنّ الصّوم يساعد على التّخلّص من السّموم.

4 – الأسباب الفلسفيّة والنّفسيّة، رأى الفيلسوفان سقراط وأفلاطون، أنّ الصّوم يساعد على الغوص في الأمور، كما يساعد في عمليّة الانضباط وتعزيز الإرادة.

أهمّية البحث

يبيّن البحث، فهم الصّوم كظاهرة تاريخيّة وأنثروبولوجيّة، من خلال تتبّع جذوره في الحضارات القديمة قبل الأديان التّوحيديّة، كما وتكمن أهمّية البحث في محاولة لتصحيح الفهم السّائد بأنّ الصّوم ممارسة دينيّة فقط، بينما هو أقدم بكثير من ظهور الأديان، كما سنحاول أن نبيّن التّطوّر في مفهوم الصّوم عبر العصور التّاريخيّة من زوايا مختلفة منها: الدّينيّ، والاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والنّفسيّ.

أهداف البحث

1 – تتبّع ممارسة الصّوم عبر الحضارات القديمة.

2 – ربط الصّوم بالسّياق، الاجتماعيّ، والثّقافيّ.

3 – تأثير الصّوم على المجتمع، والاقتصاد العام وعلى السّلوك الفرديّ والعام.

4 – ماهيّة العلاقة بين الصّوم والتّطوّر الدّينيّ والاجتماعيّ.

المنهجيّة

يعتمد البحث المنهجين التّحليليّ والمقارن، كما سيتمّ الاستعانة بعدد من العلوم المساعدة مثل علم الأنثروبولوجيا، لإبراز تطوّر الصّوم داخل المجتمعات البشريّة، وعلم النّفس في محاولة تحليل تأثير الصّوم على العقل والسّلوك البشريّ، وعلم الاقتصاد من خلال تأثير الصّوم على المجتمعات الزّراعيّة القديمة، وعلم الاجتماع، لتبيان الهوّية والتّضامن الاجتماعيّ.

الإشكاليّة:

هل الصّوم طقس دينيّ فقط ظهر مع الأديان التّوحيديّة، أم أنّه طقس إنسانيّ ظهر في الحضارات القديمة واستمرّ في أخذ أشكال دينيّة لاحقة؟

الفرضية العلميّة

فكرة الصّوم ليست دينيّة فقط، بل طقس اجتماعيّ وروحيّ منذ القدم، وُجدت جذوره في الحضارات القديمة قبل تبنّي الأديان التّوحيديّة له وإعطائه طابعاً دينيًّا.

خطة البحث:

يتألّف البحث من ثلاثة فصول تتوزّع كالتّالي:

 الفصل الأوّل: الصّوم في الحضارات القديمة.

الفصل الثّاني: الصّوم في الأديان التّوحيديّة.

والفصل الثّالث: الأبعاد الأنثروبولوجيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة للصّوم.

ثم عرض لأهمّ النّتائج العلميّة والتّوصيات، وأخيراً خاتمة البحث.   

الفصل الأوّل: الصّوم في الحضارات القديمة

1 – الصّوم في حضارات بلاد ما بين النّهرين ومصر القديمة.

هل تساءلت يوماً كيف كان السّومريّون والبابليّون والآشوريّون والمصريّون القدماء والصّينيّون يصومون قبل آلاف السّنين؟ ليس فقط لأسباب دينيّة، بل بهدف استعادة النّقاء الرّوحيّ [1].

في الحضارة السّومريّة والبابليّة كان الصّوم يمارَس كجزء من الطّقوس الدّينيّة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالكهنة ورجال المعبد، حيث تشير في هذا السّياق بعض النّصوص المسماريّة إلى أنّ الصّوم كان يُستخدم كوسيلة للتّطهير والتّقرّب من الله، بحيث كان الكهنة يتوقّفون عن تناول الطّعام لفترات محدّدة وذلك قبل البدء في مراسم الطّقوس الدّينيّة، لأنّ الصّوم كان مرتبطاً بمعتقدات تتعلّق بإرضاء الآلهة وطلب المغفرة.

بالمقابل نرى كيف أنّ الصّوم في حضارة مصر القديمة كان مرتبطاً بمسألة الموت والبعث، وكان الكهنة المصريّون يؤدّون الصّوم كجزء من الطّقوس الجنائزيّة. فكانوا يتوقّفون عن تناول الأكل بهدف تجهيز الجسد والرّوح لحياة الآخرة، كما وتشير بعض النّقوش الهيروغليفيّة أنّ الكهنة كانوا يتبعون أنظمة غذائية صارمة عن الامتناع عن تناول الأطعمة في أوقات محدّدة وذلك بهدف الحفاظ على نقاء أرواحهم أثناء ممارستهم طقوسهم الدّينيّة[2].

2 – الصّوم في الحضارات الإغريقيّة والرّومانيّة

« إنّه أداة لتنقية العقل وتقوية الإرادة» هكذا عرّف سقراط وأفلاطون الصّوم، حيث لعب الصّوم في الحضارات الإغريقيّة والرّومانيّة دوراً مهمّاً لكنّه أخذ دوراً فلسفيًّا، وقد ذكر ذلك أفلاطون في كتاباته عن فوائد الصّوم في تعزيز التّفكير الفلسفيّ وتحقيق التّوازن الجسديّ والعقليّ معًا[3]. وكان الصّوم جزءاً من الطّقوس الدّينيّة التي تسبق الأعياد والمناسبات المقدّسة في الدّيانة اليونانيّة، حيث امتنع الكهنة عن تناول الطّعام بهدف التّقرّب من الآلهة[4].

بالمقابل نرى كيف تبنّت الإمبراطورية الرومانية العديد من الممارسات الإغريقية المتعلّقة بالصّوم، لكن أصبح أكثر ارتباطاً بالتّحضير للمناسبات الدّينيّة الكبرى. علماً أنّه تبيّن أيضاً أنّ الصّوم ارتبط بالمسابقات الأولمبيّة، حيث كان الرّياضيّون يصومون لفترات محدّدة لتحسين أدائهم الجسديّ والعقليّ[5].

3 – الصّوم في الحضارات الصّينيّة، الهنديّة، الزّرادشتيّة

لعب الصّوم في الحضارات الشّرقيّة القديمة دوراً مهمّاً أيضاً في التّقاليد الدّينيّة والفلسفيّة، حيث كان الصّوم في الحضارة الصّينيّة جزءاً من تعاليم الطّاوية والكونفوشيوسيّة، حيث كان له ارتباط بتنقية الرّوح وتقوية الحكمة. وكان يُستخدم كوسيلة لتحقيق الانسجام مع الطّبيعة بهدف الوصول إلى حالة من الصّفاء الرّوحيّ[6].

بالمقابل نرى الصّوم في الحضارة الهنديّة جزءاً من المعتقدات الهندوسيّة والبوذيّة. حيث كان الصّوم في الهندوسيّة وسيلة للتّطهير الرّوحيّ وحالة الانضباط الفرديّ، وكان يُمارس في مختلف المناسبات الدّينيّة كطريق للتّقرّب من الآلهة، أمّا في البوذيّة فكان الصّوم يُمارس كجزء من التأمّل الرّوحيّ والسّعي إلى النّيرفانا[7]، حيث كان بوذا نفسه قد خضع للصّوم كوسيلة للوصول إلى الاستنارة[8].

وفي الدّيانة الزّرادشتيّة كانت فكرة الصّوم مرتبطة بمفهوميّ الخير والشّر، وكان جزءاً من الطّقوس الدّينيّة والتي تهدف إلى التّقرّب من الإله أهورامزدا والتّطهير من الذّنوب. وكان الكهنة يمارسون الصّوم كجزء من التّطهير، وإنّ الامتناع عن تناول الأطعمة هو وسيلة لتجديد الرّوح ومحاربة قوى الشّر.

الفصل الثّاني: الصّوم في الأديان التّوحيديّة

 مع انتشار الأديان التّوحيديّة، أخذ الصّوم طابعاً منظّماً أكثر، وأصبح جزءاً لا يتجزّأ من قلب التّشريعات الدّينيّة، بل والإلزاميّة التي تحدّد أوقات الصّوم، شروطه وقوانينه. من خلال هذا الفصل سنحاول دراسة كيفيّة تقبّل الدّيانات التّوحيديّة لفكرة الصّوم، محاولين التّركيز على طقوسه، أهدافه، أحكامه، وأثره على المؤمنين.

1 – الصّوم في اليهوديّة

تعود فكرة الصّوم في اليهوديّة إلى فترة العبرانيّين يعني قبل التّوراة، والذي كان مرتبطاً بمسألة التّوبة والتّكفير عن الذّنوب، ويُعتبر «يوم الغفران»[9] أو يوم «كيبور» الأهمّ عندهم، هو عبارة عن صوم لمدة 25 ساعة متواصلة، من دون أكل أو شرب أو أيّ من الملذّات الجسديّة، كما ويهدف الصّوم عندهم إلى التّطهير الرّوحيّ (الحضارات القديمة) كما أنّ هناك صوم يأتي كلّ تاسع من شهر آب حيث يصوم اليهود في هذا اليوم كونه مرتبط بذكرى تدمير (الهيكل) أضافة إلى صوم «جدليا»[10].

يشير فراس السّوّاح في كتابه مغامرة العقل الأولى إلى أنّ الصّوم كان ممارسا بين الكنعانيّين وأقوام المنطقة (العبرانيّين)، ويعني أيضاً أنّ الصّوم كان قد أرتبط بطقوس التّطهير والتّكفير والتي سادت المجتمعات المبكرة وهذا إن دل على شيء فهو يدلّ على استمرار التّقليد عبر الحضارات القديمة.

2 – الصّوم في المسيحيّة

يرتبط الصّوم في المسيحيّة بالتّقشّف والتّأمل الرّوحيّ، أمّا الصّوم الأكثر أهمية عند المسيحيّين فهو «الصّوم الكبير» والذي يمتدّ إلى 40 يوماً وذلك تخليداً لصيام السّيّد المسيح في البريّة. ممّا لا شكّ فيه أنّ طريقة الصّوم عند المسيحيّين تختلف من مذهب إلى آخر، فمثلاً في الكاثوليكيّة يُمنع أكل اللّحوم أيّام الجمعة، وفي الأرثوذكسيّة يُمنع أكل المنتجات الحيوانيّة.

كما وتُشير كتابات آباء الكنيسة المبكرين مثل أوريجانوس[11] وأوغسطينوس أو أوغسطين[12] أنّ الصّوم في المسيحيّة يرتبط بممارسات الصّوم في اليهوديّة، لكنّه تأثر أيضاً بالفلسفة الهلنستيّة والتي تدعو إلى الزّهد والتّقشّف.

أيضاً ووفق مصادر أخرى فإنّ بعض عناصر الصّوم في المسيحيّة يمكن أن تعود جذورها إلى الطّقوس السّومريّة والبابليّة التي كان فيها الامتناع عن الطّعام مرتبطاً بالشّعائر الدّينيّة والكفّارة.

3 – الصّوم في الإسلام

«يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصّيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتّقون» (البقرة 183)

هو أحد أركان الدّين الإسلاميّ الأساسيّة ويُعرف بصوم شهر رمضان، حيث يمتنع المسلم عن تناول الأطعمة والشّراب والملذّات الجسديّة من الفجر وحتى مغيب الشّمس، إضافة إلى صوم شهر رمضان، هناك صوم تطوّعي مثل صيام الإثنين، والخميس[13]، وستة أيّام من شهر شوّال[14]، وعاشوراء[15].

كما ويعتبر بعض المؤرّخين أنّ الصّوم قبل الإسلام كان يرتبط بطقوس التّحنث[16] والتّأمّل الدّينيّ، وفي هذا السّياق أيضاً تُشير بعض الدّراسات الاستشراقيّة جوزف شاخت (1902-1969) نموذجًا، إلى أنّ الإسلام أعاد تنظيم هذه الممارسات ضمن نظام موحّد يهدف إلى تحقيق التّقوى والانضباط الرّوحيّ.

في العدد القادم، الفصل الثالث: الأبعاد الأنثروبولوجية.


[1] كرامر، صموئيل نوح – ألواح سومرية – ترجمة فيصل الوائلي – بغداد – 1978 – ص: 120-125

[2] فرنكفورت، هنري – ملوك وآلهة مصر القديمة – دار النهضة – القاهرة – 1999 – ص: 98-104

[3] يلوتارخ – حياة مشاهير الفلاسفة – ترجمة محمد يوسف نجم – بيروت – 2002 – ص: 210-215

[4] لائرتيوس، ديوجين- المعروف بديوجين الكلبي – حياة وآراء الفلاسفة – دار الفكر – بيروت 1998 – ص: 78-85

[5]  ـ السواح، فراس – مغامرة العقل الأولى – دار علاء الدين – دمشق 1993 – ص: 150-158

[6] ـ كونوشيوس – مختارات كونفوشيوس – ترجمة جيمس ليغ – شنغهاي 2005 – ص: 54-60

[7]  ـ النيرفانا حسب الديانة البوذية، هي حالة وجود نظرية مركبة حيث يهرب الإنسان من المعاناة في العالم ويدرك وحدته مع الكون. كما ويستطيع الإنسان الذي يصل إلى وعيه إلى النيرفانا أن يترك خلفه دورة إعادة التجسد إلى الوجود الروحي، وأن كان بصورة غير شخصية. أما المعنى الحرفي لكلمة نيرفانا هو «الإنطفاء» أو الإخماد.

  8 أوبانيشاد – نصوص هندوسية مقدسة – ترجمة أرثر بوش – دار الحكمة 1995 – ص: 34-40

[9] هو المتمم لأيام التوبة والغفران العشرة التي تبدأ بيوم رأس السنة العبرية، ويعتبر يوم الغفران الذي يحل بعد 8 أيام من بدء السنة العبرية الجديدة من أهم الأعياد اليهودية بحسب كتاب التوراة وهو يوم يؤمن به حتى العلمانيون ويتم الصوم به لمدة 25 ساعة تكرس لمحاسبة النفس والتطهير والتكفير، وإقامة الصلوات والشعائر التلمودية بالكنس.

[10] هو أحد أيام الصوم في الديانة اليهودية، ويصادف اليوم الثالث من شهر «تشريه» حسب التقويم العبري، ويأتي بعد يوم واحد من رأس السنة اليهودية مباشرة

[11] كان من أبرز آباء الكنيسة الأوائل توفى سنة 254 لكن كتاباته هامة بوصفها واحدة من أولى المحاولات الفكرية لوصف المسيحية

[12] هو القديس اوغسطين أو أوغسطينوس 354-430 كاتب وفيلسوف ويعد من أبرز الشخصيات المؤثرة في المسيحية الغربية، كما وتعده الكنيستان الكاثوليكية والأنغليكانية قديساً وأحد آباء الكنيسة البارزين.

[13] حسب صحيح مسلم: فغن صوم الإثنين مشروع مرغوب فيه لأن ذلك يوم ولد محمد ويوم أنزل عليه الوحي

[14] حسب مسلم، من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان صيام الدهر، وهي ليست أيام مهعدودة، يل يختارها المؤمن من خلال الشهر

[15] يوم نجا الله موسى، وأغرق (فرعون) وجنوده فصامه النبي وألزم الصحابة بصيامه أيضاً

[16] هو التأمل في العزلة أو الابتعاد عن اللغو والاثم وهو العزلة في الجبال أو الأماكن البعيدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *