أما الأطروحة الأساس في مقولات هذه المدرسة فيوجزها غسان سلامه على النحو التالي: «لا علاقة لما تفعله اميركا إزاء المسلمين من تفسير موقف هؤلاء منها او مبادرة بعضهم للهجوم عليها: إن خللاً عضويّاً قائماً في الأنظمة السياسية المسلمة، وفي تراث المسلمين وربما في صلب عقيدتهم هو الذي يجعلهم بالضرورة في مواجهة دامية وطويلة بين اميركا والإسلام». وتجدر الاشارة الى أن مقولة «صدام الحضارات» لم تكن من ابتكار صموئيل هانتغتون بل استعارها من مقال لبرنارد لويس في مجلة الاتلانتيك صيف 1990.
من جهة أخرى يعتبر برنارد لويس المرشد الأعلى لمدرسة المحافظين الجدد، الذي ساهم تشخيصه «عن امراض العالم الاسلامي ودعوته الى اجتياح يلقي بذار الديمقراطية في الشرق الأوسط في تحديد التحوّل الأكثر جرأة الذي حدث في السياسة الاميركية خلال الأعوام الخمسين الأخيرة». وفي كتابه «مستقبل الشرق الأوسط»، ينفي لويس وجود الدولة العربية قبل مجيء نابليون بونابرت للمنطقة عام 1798، ويقول إنه في ذلك الوقت لم يكن موجوداً سوى دولتين هما تركيا وإيران. اما العرب، برأي لويس، فهم ينتمون الى قبائل شرق أوسطية، يجلسون في المقاهي لإرتشاف القهوة أو الشاي، يشاهدون التلفاز أو يستمعون الى الراديو، ليس لديهم ثقة بأنفسهم، وينتظرون التغيير من الخارج.
ومن أجل طمأنة وإراحة وحماية اسرائيل، يلحظ لويس أن ما حدث في النصف الاول من القرن العشرين ان أسماء مناطق تحوّلت الى دول مصطنعة في غياب أي شعور بالهوية الوطنية او أي ولاء للدولة- الأمة. وعليه، فإن الدول العربية معرضة للتفكك بسبب ازدياد الشعور الاثني والطائفي، دونما أي اشارة الى من يقوم بتغذية هذا الشعور العرقي والتفكك الاثني. وهكذا، ففي عام 2003 اقترح لويس على البنتاغون تقسيم الدول العربية على النحو التالي:
1 ـ تجزئة العراق الى ثلاث دول: كردية، سنية وشيعية.
2 ـ تجزئة سورية الى ثلاث دول: درزية، علوية وسنية.
3 ـ تقسيم الأردن الى كيانين: أحدهما للبدو والآخر للفلسطينيين.
4 ـ تجزئة المملكة العربية السعودية الى عدة دويلات وإمارات.
5 ـ تقسيم لبنان الى دويلات طائفية: مسيحية، شيعية، سنيّة، درزية وعلوية.
6 ـ تقسيم مصر الى دولتين: إسلامية وقبطية.
7 ـ فصل جنوب السودان عن شماله لتقام فيه دولتان واحدة عربية في الشمال وأخرى زنجية في الجنوب.
8 ـ اقامة دولة للبربر في المغرب العربي.
9 ـ تقسيم موريتانيا الى دولتين، عربية وزنجية.
لا شك في أن هذا المخطط سوف يخدم إسرائيل، لكن الأخطر من كل ذلك ان تتحوّل مقولات لويس الى سياسات ومشاريع تبنتها إدارة الرئيس بوش الابن فيما بعد وعملت على تنفيذها، لدرجة أصبحت إسرائيل هي التي ترسم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
كما تضمن المشروع الاميركي النقاط التالية:
1 ـ لائحة اتهامات للمنطقة العربية على انها مصدر الإرهاب.
2 ـ مساعدة ومساندة القوى المحلية لفرض اصلاحات تخلق واقعاً جديداً.
3 ـ استعمال القوة العسكرية لإسقاط الدكتاتوريات.
4 ـ اعتبار نشر الديمقراطية في العالم في صميم المصلحة الأميركية.
الواقع أن مشروع الشرق الأوسط الكبير، كما كل المشاريع السابقة، يهدف الى اعادة تشكيل المنطقة العربية سياسياً وثقافياً بشكل يجعل اسرائيل كياناً مندمجاً ومسيطراً، وهذا يعني أن تصبح تل ابيب، في مرحلة ما بعد التسوية، جزءاً لا يتجزأ من عملية صنع القرار السياسي والاقتصادي داخل العواصم العربية.
I- السياسات الاسرائيلية في تفتيت العالم العربي.
II- وضعت اسرائيل بناء على الدراسات والابحاث والمؤتمرات السرية والعلنية التي عقدتها مخططات ومشاريع مختلفة للأستفادة من وجود الأقليات في العالم العربي. وتجمع تلك الدراسات على تبني اسرائيل لاستراتيجية التفتيت والتجزئة للعالم العربي الى دويلات صغيرة تقوم على أسس طائفية وعرقية. وقد لحظت تلك الاستراتيجية في السياسة التي اعتمدت موقف «شدّ الاطراف ثم بترها»، بمعنى مدّ الجسور مع الاقليات وجذبها خارج النطاق الوطني، ثم تشجيعها على الانفصال. وفي إطار تلك الاستراتيجية قامت عناصر الموساد بفتح خطوط اتصال مع بعض زعماء الاقليات في كل من العراق وسوريا ولبنان والجزائر والسودان.
1- العراق:
تعتبر اسرائيل العراق عدوّاً تاريخيّاً لها وذلك للأسباب التالية:
ـ السبي اليهودي من فلسطين للعراق في عهد نبوخذنصّر.
ـ مشاركة الجيش العراقي في كل الحروب العربية ـ الاسرائيلية:(1948، 1967، و1973)
ـ عدم توقيع العراق على اتفاقية الهدنة مع اسرائيل كما فعلت «دول الطوق»: مصر، سورية، لبنان، والاردن.
ـ محاولات العراق تطوير قدراته العسكرية لمواجهة الخطر الصهيوني كما تدعي أدبيات حزب البعث.
وكل هذه الاسباب مجتمعة دفعت تل أبيب الى لعب دور فعّال في التخطيط للاحتلال الاميركي ـ البريطاني للعراق بهدف اخراجه من معادلة الصراع العربي الصهيوني، تمهيداً لتفتيته عبر اختلاق الفتن بين الشيعة، والسنّة، والأكراد، والتركمان. وهناك معلومات موثقة تفيد عن مشاركة فرق كوماندوس اسرائيلية في الحرب داخل الأراضي العراقية. وليس من باب الصدفة ان يقوم رجال اعمال صهاينة بشراء الأراضي في كردستان الغنية بالنفط. واليوم، وبعد المجازر التي ارتكبتها داعش بحق الاقليات المسيحية والإيزيدية، يمكننا إدراك حجم الاستثمار الصهيوني في تقسيم العرق الى دويلات كردية وسنية وشيعية.
1ـ سورية:
من يراقب الحرب الكونية التي تجري على ارض سورية وادواتها الإرهابية يدرك مدى الاهتمام الإسرائيلي في العمل على تقسيمها الى دويلات طائفية متناحرة. وللدلالة نشير الى الدراسة التي وضعها الباحث الإسرائيلي يعقوب شمشوني في 28 شباط 1994 وفيها حلّل أوضاع الأقليات الطائفية والعرقية في سورية على النحو التالي:
ان الصراعات الطائفية في سورية مجمّدة ومرهونة ببقاء الحكم الحالي فيها. ولكن هذه الصراعات سوف تنفجر بشكل دموي وعنيف حيث يهدف الصراع الى مسك زمام الحكم مستقبلاً، لأن الصراع المتوقّع في سورية لاحقاً لن يكون صراعاً بين رموز وشخصيات على السلطة، بل سيكون مظهره طائفيّاً
من جهته قدم استيمار رابين وفيتش، المتخصص في الشؤون السورية، دراسة عن التركيبة الاجتماعية في سورية، مدعيّاً ان قضية الاقليات فيها «قنبلة موقوتة قد تنفجر في اي لحظة مثلما انفجرت في لبنان والعراق ويوغوسلافيا». ويشير رابين وفيتش الى محاولات الحركة الصهيونية الى اقامة علاقات مع كل من الدروز والعلويين وتشجيعهم على اقامة دولتين خاصتين بهم. وكان لحركتي «فأبي» و«حالوت هاتسوفيتم» الصهيونيتان الباع الطويل في هذا المجال الى ان توقفتا عن العمل بعد اعلان الاستقلال السوري.
2 ـ لبنان:
وجدت الحركة الصهيونية واسرائيل في لبنان الحلقة الأكثر ضعفاً في الدول العربية التي من الممكن تنفيذ مخططاتها فيها. كما ان لبنان من وجهة النظر الصهيونية هو خطأ جغرافي وتاريخي، وبأنه كيان مركب يحمل في ذاته عطبه التكويني منذ اعلان دولة لبنان الكبير. وفي اجتماع عقد في 1954/2/27، ضمّ الىجانب بن غوريون كل من وزير الدفاع ورئيس الاركان، عرض اقتراح يقضي بافتعال اضطرابات واحداث فوضى في لبنان، تمهيداً لإقامة دولة مسيحية فيه. واستكمالاً لهذا الاجتماع اقترح بن غوريون في 1954/5/16 استراتيجيته لتفتيت لبنان تنص على ان انشاء دولة مسيحية في لبنان «امر طبيعي» له جذوره التاريخية، وبأن هذا الأمر لا يتحقق من دون احتلال جنوب لبنان وضمّه الى اسرائيل. ولقد حاولت اسرائيل تنفيذ مخططها عن طريق العنف (عملية الليطاني 1978، اجتياح 1982، تصفية الحساب 1993، عناقيد الغضب 1996، وحرب 2006)، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً وأصيب جيشها بهزائم متلاحقة برهنت للقاصي والداني ان لبنان هو الحلقة الأقوى في دائرة الصراع العربي ـ الصهيوني. غير انه يجب التنبه الى ان الاطماع الصهيونية في احتلال الارض وسرقة النفط وتلويث الهواء والبيئة اللبنانية لا تزال قائمة. ويبدو ان اسرائيل تتوقع تقسيم لبنان كنتيجة حتمية لتقسيم سورية والعراق.
3 ـ الجزائر والسودان:
شجعت اسرائيل الحركات الانفصالية للبربر في الجزائر، البالغ عددهم 4.5 مليون نسمة، بالانفصال عن الوطن الام. وكان الدعم الاسرائيلي للبربر يتم في اتجاهين:
1 ـ امداد بعض الجماعات البربرية الناشطة بالسلاح.
2 ـ واستقدام بعض العناصر البربرية لاسرائيل لكي تتدرّب على السلاح.
اما بالنسبة للسودان فقد استغلت تل أبيب قضية جنوب السودان لإضعاف مصر والسودان معاً. من جهته يعرض موشي فرجي المراحل التي مرّ بها دعم تل ابيب للحركة الانفصالية في جنوب السودان، والتي انتهت الى تزويد الانفصاليين بالمال والسلاح لتعزيز موقفهم التفاوضي مع الحكومة المركزية في الشمال. أخيراً، وفي 9 تموز 2011 تم اعلان جنوب السودان جمهورية مستقلة بمباركة صهيونية. وما يقال عن جنوب السودان ينسحب ايضاً على ليبيا والتي تدل الوقائع على احتمال كبير لتقسيمها الى دولتين شرقية وغربية.
خاتمة:
إن السلام حسب المفهوم الإسرائيلي هو سلم اسرائيلي مسلّح يسعى الى فرض هيمنته على العالم العربي وبوسائل عسكرية واقتصادية لإسقاط الحواجز التي تقوم بين المغتصب والضحيّة. وفي رأينا لا يوجد أي فرق بين المشروع التلمودي لإسرائيل الكبرى والمشروع الشرق أوسطي لإسرائيل العظمى، فكلاهما مشروعان صهيونيان للسيطرة يهددان وجودنا بالخطر الساحق. فليس أحدهما اكرم على العرب، أو أحدهما مشروع سلام، والآخر مشروع حرب. فالسلم الذي يفرض قيود الاذلال للكرامة والنهب للثروات وتغييب الهوية هو أخطر وجوه الحرب.
الأهم من كل ذلك هو انه من المستحيل أن تتم المواجهة مع العدو الصهيوني في ظل أنظمة سلطوية عملت، ولا تزال تعمل، على ترهيب الناس. فالشعوب التي تفتقر للحرية صعب ان تقاتل، وإن قاتلت فهي تقاتل دفاعاً عن سلطة محكومة من قبل عائلات وقبائل ومجموعة لصوص وعملاء احتكرت الثروات واستخدمت الذراع الامنية في القضاء على الفكر المؤمن بحق الانسان في الحياة الكريمة في إطار دولة المواطنة. وعليه، أن بناء دولة المواطنة تشكّل حجر الأساس لأي مشروع نهوضي عربي قادر على مواجهة الخطر الصهيوني.
لا شك في اننا نعيش في زمن عصيب يتميّز باقتتال مذهبي ودعوات تكفيرية انتجت أعتى انواع الارهاب، وهددت وحدة أوطان ودول. وفي رأينا ان تحقيق دولة المواطنة بأبعادها السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية يعتبر خطوة متقدّمة نحو بناء دولة أكثر عدالة وأكثر إنسانية وأكثر منعة. فالمساواة أمام القانون هي دلالة على البعد المدني (الحقوقي)، وحق الاقتراع العام للمواطنين يفسر البعد السياسي، والمساواة بين الجنسين تجسيد للبعد الاجتماعي، وحصول كل مواطن على نصيب عادل من الثروة ا لوطنية تأكيد للبعد الاقتصادي وللبعد الاجتماعي معاً.
وللوصول الى دولة المواطنة لا بدّ من الاشارة الى ذلك الجانب التربوي التوجيهي لإكتساب المواطنة. والتعرّف على قيم المواطنة والقيم المدنية يتم بواسطة مؤسسات رسمية ومدنية. ومن أبرز القيم المرتبطة بالتنشئة المدنية نذكر: الحرية في مواجهة الاستبداد، والمساواة في مواجهة التمييز، وتطبيق القوانين في مقابل الفوضى، والالتزام بالمصلحة العامة او الشأن العام في مواجهة الأنانية، والمشاركة الايجابية في خدمة المجتمع في مقابل السلبية والانعزال.
إن قيم المواطنة، معززة بالقيم المدنية، من شأنها معالجة قضية الاقليات، أو عقدة الأقليات التي تؤرق الشعوب. ذلك لأن قضية المساواة في تطبيق القيم، والمساواة امام القانون، تحققان الأمن المجتمعي للجميع.
إن ادماج الأقليات في المجتمع الوطني ليس عملية قسريّة، بل عملية تفاعل قائم على الحوار، ومبدأ المشاركة، والشعور بالمسؤوليّة الوطنية. أن اشراك الأقلية في الحياة الوطنية مسألة مساعدة على الاندماج الطوعي، وعلى السلطة عدم التعامل مع أيّة فئة اجتماعية كأقليّة، وعدم إشعارها بعقدة الأقلية. ابناء هذه الأقلية ليسوا رعايا، بل مواطنين متساوين مع أقرانهم في الحقوق والواجبات… والمواطن، فطريّاً، مستعد لتقديم الولاء للدولة إذا كانت الدولة مستعدّة لتقديم الحماية والأمن الاجتماعي والصحي والتربوي له إسوة بباقي المواطنين.