مقدمة:
مع بروز الحركات التكفيرية الى جانب الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين واراضٍ عربية أخرى، والعالم العربي يواجه تحديات كبرى أخطر بكثير من التحديات التي فرضتها عليه اتفاقية سايكس ـ بيكو (1916) ووعد بلفور (1917). وتتمثّل هذه التحديات في محاولات القوى الصهيونية والتكفيرية في فرض مشاريعها الهادفة الى ترسيخ التبعية والتخلّف والتجزأة والاحتلال؛ وطبعاً في ظل نظام رسمي عربي ضعيف وعاجز عن التصدّي لتلك التحديات. وحول دور اسرائيل في العمل على تفتيت العالم العربي وتقسيمه الى دويلات إساسها العرق والدين والمذهب؛ وكل ذلك يترافق مع ما تقوم به الحركات التكفيرية التي تمثّل، بنهجها وممارساتها الإرهابية، الوجه الآخر للعملة الصهيونية. وعليه فإن هذا البحث ينقسم الى ثلاثة أقسام:
1 ـ موقف الحركة الصهيونية من مسألة الاقليات في الوطن العربي.
2 ـ المشاريع الصهيونية الشرق أوسطية والتي، ان كتب لها النجاح، سوف تمهد الطريق لإقامة «اسرائيل العظمى».
3 ـ السياسات الاسرائيلية في تفتيت العالم العربي.
- موقف الحركة الصهيونية من مسألة الأقليات في العالم العربي
منذ ما قبل قيام الكيان الصهيوني بوقت طويل اعتمدت الحركة الصهيونية مبدأ Sun ـ Tzu القائل بأن: « أعلى مراتب النجاح العسكري يتم تحقيقها عندما يبلغ المرء اهدافه من دون الاستعمال الفعلي للقوة». وهذا ما حاولت ولم تزل تحاول تل أبيب فعله مع العرب، أي توظيف الأقليات الموجودة في العالم العربي خدمة لمصالحها. وفي هذا السياق عملت «إسرائيل» على تضخيم مشكلة الأقليات، وحضها على التمرّد والانفصال، تنفيذاً لمشروعها في شرعنة وجودها كوطن قومي لليهود محاطة بدويلات تحكمها اقليات خاصة بها. تجدر الاشارة الى ان نسبة الأقليات في العالم العربي هي بحدود 20% موزعة على محاور اللغة 13% والدين 9% والمذهب 16%.
إن تفتيت العالم العربي يعتبر استراتيجية ثابتة في الفكر الصهيوني الذي يرى منطقة الشرق الأوسط عبارة عن مجموعة من الأقليات والأديان والأثنيات والأعراق واللغات، وبأن العرب لا يمثلون سوى قومية واحدة تتساوى مع غيرها من القوميات. ويقول ابا ايبان في هذا الصدد:
«من الحيوي ان نذكر ان الشرق الاوسط والعالم العربي ليسا متساويين او متطابقين…وهناك شرق أوسط غير عربي يمتد من تركيا وإيران عبر اسرائيل الى اثيوبيا. وإذا وسعنا المنطقة لتشمل افغانستان وباكستان، فإن ذلك سوف يزيد من وضوح اللاعرب الغالبة على المنطقة. إن الشرق الاوسط لم يكن في الماضي ولا في الحاضر ولا يمكن ان يكون في المستقبل ملكاً خالصاً للعرب».
ترى« إسرائيل» انه من حقها الدفاع عن الاقليات في العالم العربي، بوصفها «دولة الاقلية بامتياز.» وأكدت مقالة نشرت في صحيفة DAVAR الاسرائيلية في 1981/4/14 ذلك:
«المشروع لكونها دولة يهودية في الشرق الاوسط، العمل للدفاع عن أية أقلية قوميّة أو اثنيّة او دينيّة في المنطقة لكونها (أي اسرائيل) جزء لا يتجزأ منها. ومن مصلحة اسرائيل المشروعة ان تشارك في الحفاظ على النسيج التعددي للشرق الاوسط لكونه اساس وجودها وأمنها، ومن حق اسرائيل منع السيطرة العربية والاسلامية على مختلف الاقليات التي تعيش في المنطقة.»
ولتحقيق هذا الهدف، اعتمدت اسرائيل استراتيجية اثارة الخلافات بين السنة والشيعة والاكراد في العراق، وبين السنة والعلويين في سورية، وبين الطوائف اللبنانية كافة، وبين الفلسطنيين والاردنيين، وبين السنة والشيعة في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط في المملكة العربية السعودية، وبين المسلمين والاقباط في مصر، وبين الشمال المسلم والجنوب المسيحي في السودان، وبين العرب والبربر في الجزائر والمغرب.
في كتابه «استراتيجيّة عظمى لإسرائيل عام 1990»، أبرز Dror العناصر والافكار التي من الممكن ان تؤدي الى اضعاف الدول العربية وتفتيتها بما يخدم اسرائيل وأمنها. من هذه الافكار نذكر:
1 ـ اثارة الحروب والنزاعات بين الدول العربية.
2 ـ ايجاد مختلف الوسائل لتدخل الدول الكبرى في النزاعات العربية.
3 ـ تدمير البنى الاساسية للدول العربية من دون استثناء.
4 ـ تفتيت المجتمعات العربية من الداخل عن طريق دعم الاقليات غير العربية وغير الاسلامية.
5 ـ تدعيم علاقات اسرائيل مع دول الجوار غير العربي والتحالف معها.
وضعت اسرائيل اهدافاً واضحة في سياستها في دعم الاقليات في العالم العربي. من هذه السياسات نذكر:
1 ـ اقامة دولة يهودية نقية.
2 ـ ربط اقتصادات الدول العربية بالاقتصاد الاسرائيلي من منطلق السيطرة ومبدأ التبعية.
3 ـ تحويل القدس الى عاصمة عالمية مصرفية وصناعية.
لتحقيق كل ذلك تريد اسرائيل بلقنة المنطقة العربية لأنها مقتنعة بأن تجزأة الدول العربية وتحويلها الى كيانات ذات طابع طائفي او عرقي سيساهم في حمايتها وضمان أمنها، ويحقق لها هدفين في آن معاً.
1 ـ لإيجاد تبرير لوجودها كدولة يهودية في عالم يسوده مفهوم الدولة الطائفية.
2 ـ لإشغال الشعوب العربية سنوات طويلة في خلافات عبثية لا تنتج سوى الازمات والحروب فيما بينها.
I ـ في الطريق نحو «اسرائيل العظمى» الحوار بين بيريس ولويس
انطلاقاً من تحليلنا السابق لنظرة الصهيونية الى مسألة الاقليات ومخططاتها لتفتيت العالم العربي يمكننا قراءة وفهم طروحات شيمون بيريس في كتابه «الشرق الأوسط الجديد». تحت عنوان «فجر السلام» يعلن بيريس ان إعلان المبادىء في أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل في 20 آب 1993 يعني «بداية مرحلة تاريخية جديدة في الشرق الأوسط». ففي رأيه أن الاتفاق المذكور أعطى تل أبيب أكثر من مجرد كلمات، «لقد حصلنا على تنازلات لم نكن نستطيع بدونها توقيع أي اتفاق… تنازلات أمنية وقضية إبقاء القدس خارج اتفاقية الحكم الذاتي والإبقاء على المستوطنات حيث هي».
وعليه، فبعد المصافحة في حديقة البيت الابيض بين عرفات ورابين في 13 ايلول1993، وضع بيريس تصوره لمستقبل المنطقة في عصر السلام بين العرب واسرائيل. وفي ذلك حاول بيريس تجاوز عوامل العداء التاريخية والتركيز على الصورة الاقتصادية لإيهام وتضليل اولويات التصالح في حال اكتماله، واعتبار الشأن الاقتصادي «الألف والياء» في منطقة شديدة التعقيد، وأن الكتاب يمثل تسويقاً جديداً لنهج إسرائيلي ثابت في فتح المنطقة أمام السيطرة الإسرائيلية اقتصاديّاً وتكنولوجيّاً. ففتح الأسواق العربية أمام السلع العبرية سوف يساعد إسرائيل كثيراً على المشاركة في صنع القرارات داخل العواصم العربية. بمعنى آخر، إن تركيز بيريس على القضايا الاقتصادية ما هو إلا محاولة إسرائيلية للحصول على ما عجزت تل أبيب عنه في ساحة المعركة، على قاعدة إن ما هو لإسرائيل هو لإسرائيل وحدها، أما ما هو للعرب فهو للعرب والاسرائيليين على السواء.
«والملاحظ ان محور التفكير الملازم لهذه الطروحات،» يقول انعام رعد، «هو الربط في كل شيء بالنظام الإقليمي الذي تشكّل اسرائيل محوره في المواصلات، في النقل، في المرافىء، في المطارات، ودمج المنطقة بحيث لا تبقى بلاد خارج هذا الربط». هذه الافكار جميعها حكمت المشاريع الإسرائيلية المقدمة الى المؤتمرات الاقتصادية الشرق اوسطية التي انعقدت في الدار البيضاء (1994)، عمان (1995)، والقاهرة (1996).
الحقيقة ان هذه المؤتمرات حملت في طياتها مشروعاً إسرائيلياً متكاملاً وشاملاً تشكّل تهديداً للأمن القومي العربي. ويمكننا ملاحظة ذلك على النحو التالي:
1 ـ اعتبرت المؤتمرات البداية للإسقاط العملي للمقاطعة العربية لإسرائيل.
2 ـ إن فكرة الاقتصاد الإقليمي وتأسيس السوق الشرق أوسطية بالتدرّج، أي فرض الوقائع الاقتصادية تدريجيّاً، يهدف الى الغاء مقولة صراع الوجود واستبداله بالمنافسة الاقتصادية العادية.
3 ـ إن كل المشاريع التي تقدّمت بها الحكومة الإسرائيلية تهدف الى ربط العالم العربي بشبكة الاستثمارات والاتصالات والمواصلات الرئيسية.
4 ـ إن «الهجوم» الإسرائيلي تجاه السلام ليس بريئاً، بل هو مدمج بالترسانة النووية الوحيدة في المنطقة، وبأسلحة الدمار الشامل، وبصناعة عسكرية متطوّرة.
إن مشاريع الشرق الأوسط الصهيونية لم تأت من الفراغ، ولم تكتب كردة فعل على أحداث طالت المصالح الغربية بشكل مباشر، بل لها خلفيتها الثقافية الضاجة بأبحاث نخبة أكاديمية تعلمت لغات العرب والمسلمين وأجرت الدراسات على مجتمعاتهم. هذه المدرسة الفكرية استرشد بها المحافظون الجدد الذين «احتلوا» البيت الابيض ابّان ادارة الرئيس جورج بوش الإبن. أما الأطروحة الأساس في مقولات هذه المدرسة فيوجزها غسان سلامه على النحو التالي: «لا علاقة لما تفعله اميركا إزاء المسلمين من تفسير موقف هؤلاء منها او مبادرة بعضهم للهجوم عليها: إن خللاً عضويّاً قائماً في الأنظمة السياسية المسلمة، وفي تراث المسلمين وربما في صلب عقيدتهم هو الذي يجعلهم بالضرورة في مواجهة دامية وطويلة بين اميركا والإسلام». وتجدر الاشارة الى أن مقولة «صدام الحضارات» لم تكن من ابتكار صموئيل هانتغتون بل استعارها من مقال لبرنارد لويس في مجلة الاتلانتيك صيف 1990.
من جهة أخرى يعتبر برنارد لويس المرشد الأعلى لمدرسة المحافظين الجدد، الذي ساهم تشخيصه «عن امراض العالم الاسلامي ودعوته الى اجتياح يلقي بذار الديمقراطية في الشرق الأوسط في تحديد التحوّل الأكثر جرأة الذي حدث في السياسة الاميركية خلال الأعوام الخمسين الأخيرة». وفي كتابه «مستقبل الشرق الأوسط»، ينفي لويس وجود الدولة العربية قبل مجيء نابليون بونابرت للمنطقة عام 1798، ويقول إنه في ذلك الوقت لم يكن موجوداً سوى دولتين هما تركيا وإيران. اما العرب، برأي لويس، فهم ينتمون الى قبائل شرق أوسطية، يجلسون في المقاهي لإرتشاف القهوة أو الشاي، يشاهدون التلفاز أو يستمعون الى الراديو، ليس لديهم ثقة بأنفسهم، وينتظرون التغيير من الخارج.
ومن أجل طمأنة وإراحة وحماية اسرائيل، يلحظ لويس أن ما حدث في النصف الاول من القرن العشرين ان أسماء مناطق تحوّلت الى دول مصطنعة في غياب أي شعور بالهوية الوطنية او أي ولاء للدولة ـ الأمة. وعليه، فإن الدول العربية معرضة للتفكك بسبب ازدياد الشعور الاثني والطائفي، دونما أي اشارة الى من يقوم بتغذية هذا الشعور العرقي والتفكك الاثني. وهكذا، ففي عام 2003 اقترح لويس على البنتاغون تقسيم الدول العربية على النحو التالي:
1 ـ تجزئة العراق الى ثلاث دول: كردية، سنية وشيعية.
2 ـ تجزئة سورية الى ثلاث دول: درزية، علوية وسنية.
3 ـ تقسيم الأردن الى كيانين: أحدهما للبدو والآخر للفلسطنيين.
4 ـ تجزئة المملكة العربية السعودية الى عدة دويلات وإمارات.
5 ـ تقسيم لبنان الى دويلات طائفية: مسيحية، شيعية، سنيّة، درزية وعلوية.
6 ـ تقسيم مصر الى دولتين: إسلامية وقبطية.
7 ـ فصل جنوب السودان عن شماله لتقام فيه دولتان واحدة عربية في الشمال وأخرى زنجية في الجنوب.
8 ـ اقامة دولة للبربر في المغرب العربي.
9 ـ تقسيم موريتانيا الى دولتين، عربية وزنجية.
يتبع الحلقة الثانية