قلّما تذكر كتب التاريخ المهندسين المعماريين الذين أشادوا الأبنية الحضارية، وعند ذكر مبنىً، أو قصرٍ أو بوابةٍ أو حمامٍ أو قلعةٍ أو جسرٍ أو معبدٍ، نرى في النقش المؤرخ للمبنى أو للترميمات التي أحدثت على المبنى اسم الإمبراطور أو الملك أو الحاكم أو الوالي إلخ.. وحيث كان الأمر كذلك، فإنّه لمن الصعوبة بمكان أن نتعرف على المُخطِط أو المنُفذ للمنشآت التاريخية، وبالرغم من تلك الصعوبات، فقد لمع اسم المعماري الدمشقي «أبولودور» لكونه شخصية فذّة في هندسة العمارة، وفي فلسفتها ممّا حدا بالإمبراطور تراجان الاهتمام به، ومن ثم الإمبراطور «هادريان» ولكن الحظّ لم يسعفه في النهاية، فكان مقتله على يديه.
ولد أبولودور (هبة الإله أبولو) Apollodorus« »Ἀπολλόδωρος«» في دمشق حوالي عام60ميلادية تقريباً، وكان صديقاً للإمبراطور «تراجان»، و ذلك عندما كان والده «ماركوس ألبيوس» والياً على دمشق بين عامي 77 ـ 79م، وعندما أصبح إمبراطوراً استقدم صديقه المعماري «أبولودور» إلى روما، ذلك المعماري الذي خبره وعرفه ليس فقط لأنّه التقاه في دمشق بمحض الصدفة، بل لأنّ «أبولودور» ربما هو من بنى معبد الإله جوبيتر والذي ما تزال بعض من أجزاءه ظاهرةً جلية مكان جامع دمشق الكبير حيث عثر على نقش كتابي أثناء بعض الترميمات في الجامع يذكر اسم «أبولودور»، إذاً الإمبراطور تراجان تعرّف إلى صديقه من خلال عمل عظيم قام به وخير ما يمكن أن يكون هو بناء معبد جوبيتر، وبعد أن استقدم تراجان صديقه المعماري إلى روما أوكل إليه مهمة إنشاء الأبنية والصروح المعمارية العسكرية منها والمدنية، كما أنّه اصطحبه معه إلى داسيا(رومانيا) خلال حملته العسكرية الثانية عليها، فبنى «أبولودور» جسراً على نهر الدانوب من الحجر وهو الجسر الأول في أوربا، وذلك خلال عامي 104 ـ 105م، والذي يقع بين مدينة دروبيتا Drobeta ـ Turnu Severin في رومانيا ومدينة كلادوفوKladovo في صربيا، وقد تطلب بناؤه وضع عشرين ركيزة، حيث أنّ الجسر بطول 1135م، وعرض 15م، وارتفاع 19م، وقد أمر الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الكبير بإصلاحه عام 328م، وكذلك قام «أبولودور» بتصميم مجمع أسواق تراجان وساحة كبيرة (الفوروم) وعمود «تراجان» الذي يتوسطها وحمامات «تراجان» والحوض السداسي في أوستياOstia وأقواس النصر في مدينتي أنكوناAncona وبينفينتومBeneventun والأوديوم(Odeum) وهو مسرح الشعر والموسيقى في روما كما أنجز تجفيف مستنقع البونتيه، وأصلح قناة من النيل إلى البحر، إضافة لتشييده معبد البانثيون Pantheon.
أمّا عمود تراجان فهو بارتفاع33م، وجسدت على العمود مشاهد، تروي قصة الحرب مع داسيا، ويرمز ذلك العمل أي؛ العمود لقوة الإمبراطورية الرومانية حيث تُرى قاعدته مزخرفة بمنحوتاتٍ تمثّل مشاهد واقعية من الحرب، ومن أهمّ سمات ذلك العمل الفني الرائع أنّه اختصر بشكل شيقٍ ما حققه «تراجان» من انتصارات على الأعداء في داسيا، حيث تقديم القربان للآلهة من قبل الإمبراطور أمام جسر الدانوب أي الجسر الذي بناه «أبولودور»، كما أنّ بعض المشاهد مثّلت المعدات التي استخدمها الرومان في تنزيل المؤن من السفن الحربية وتحميلها، وصعود «تراجان» إليها، وكذلك مشهد يمثل خطبة له أمام جنوده في إحدى القلاع ومشهد لأسرى الجنود الداسيين، إضافة لعمليات تشييد المباني داخل الغابات كما أنّ أحد المشاهد مثّل عمليات الانتحار الجماعي للداسيين في منازلهم وحرقها كي لا يتسنى للرومان الاستفادة منها أو تجرع الداسيين للسم.
لقد توفي «أبولودور» حوالي عام 130ميلادية تقريباً، وإحدى الروايات تقول بأن الإمبراطور «هادريان» قتله بعد أن أهداه كتاباً في آلات الحرب، ولكن ذكره بقي وسيبقى ما دامت أعماله باقية، ومادام هناك من يذكر أعماله أو يقرأ كتب التاريخ التي تحدثت عنه، وعن عظمة هندسته المستمدة من عمق هندسي عظيم لدى السوريين الأوائل.
المراجع:
1 ـ بشور، وديع، مبدعون سوريون في تاريخ الإنسانية، ط1، اللاذقية 2006.
2 ـ بهنسي، عفيف، تاريخ الفن والعمارة، ط4، جامعة دمشق1992 ـ 1993.
3 ـ عبد الكريم، مأمون، أبولودوروس الدمشقي، موسوعة الآثار في سورية، ج1، 149 ـ 151، دمشق2014.

عبد الوهاب أبو صالح