الدولة المستحيلة

إذا كان هناك تعريف قريب ومفهوم للدولة، فسوف يكون، «تقديم وضمان الأمن والسلام»، بطرائق وعمليات سياسية وحوكمية، قادرة على استثمار هذه التقدمة في انتعاش الأداء المجتمعي في سبيل الرفعة والاستمرار في الحياة، فإذا لم تستطع المبادرة تجاه هذه التقدمة الأولية، فإن الوجه الآخر لها (التربية) سيتعطل ويدخل الاجتماع البشري في حركية انتكاسية، تقاوم تأسيس المجتمع، على أنه نتائج حراك معرفي ملموس ومفهوم، يتقصد الالتحاق بالتحضر، كحالة بشرية قائمة، وما هو غير مفهوم، هو حالة من غياب العلم ومن ثم المعرفة، بشروط وبيئة العقد الاجتماعي، المنتج للشرعية، تماما كما هو منتج للارتقاء الضروري للاستمرار.
على هذا المفترق وقفت سابقاً وتقف الآن «دول» سوريا المترامية بين البحر المتوسط وجبال زغروس، كل في تجربة منفردة في لملمة البلاد والعباد، في سياق يقصد تحويلها إلى وطن ومواطنين، ولكن التجارب فشلت بطريقة كارثية، بين لحظتي الاستقلال واليوم، على الرغم من أن هذه البلاد وتلك العباد، لم تكن موجودة قبل الاستعمار بالمعنى المتحضر للكلمة أو ما يسمى مجتمعاً واضحاً ذي مصالح. واليوم تعيد هذه البلاد ومن سكنها من عباد، تجريب طعم الكارثة للمرة الألف، وتتفاجىء من طعمها الآسن لتقوم بالصمت المديد خوفاً من ( شماتة العدا) أو تأكيداً على صحة ما قامت به من تصرفات لا تقود إلا إلى كارثة، حيث بعد مرور الزمن، لا يمكن تصحيح الذي فات، ولا التأسيس لما هو آت، مهما كانت التبريرات والذرائع، ومهما كانت الظروف والحوائل، ولربما تبدو التسجيلات الصوتية لجمال عبد الناصر، المكتشفة حديثاً، تثبت أنه كان يعرف ما هي «الدولة» وشروط تأسيسها ومستحقات هذا التأسيس، ولكنه طنشها انحيازاً لسلطته وإستمرارها، مؤسساً للدولة الأمنية، على إعتبار أن سكوت الرعايا تعبيراً عن رضاهم، متجاوزاً بذلك كل ثقافة حقوقية تشترط قيام الدولة، وبالتالي انحراف واضح عن شروط تأسيس الدولة، وهي شروط دقيقة لا يمكن تجاوزها، أو حتى الانحراف عنها، لأن ذلك يؤدي إلى كيان آخر هو غير الدولة، وهنا يمكن تصنيف هذه «الدولة» أو توصيفها، فهذه دولة قوية وأخر هشة، وثالثة متينة ورابعة مبعثرة أو مخابراتية أو قمعية أو طائفية إلخ ..إلخ، وكلها مواصفات ما بعد التأسيس والممارسة، أي بعد وقوع (الفاس بالراس)، واكتشاف أن أحد شروط التأسيس أو أغلبها أو كلها، تم إغفالها عبر استخدامها كوقود لتمكن السلطة واستمرارها، وتغطية ذلك إما بشعارات مستحيلة، أو بوعود غير قابلة للتنفيذ لإنها تؤثر في بنية السلطة. ليبقى للبلاد والعباد خيار واحد هو الدولة المستحيلة، التي تتلخص بمقولة كما نراكم نحكمكم، كتعبير تحقيري، يفترض إرساء السلطة قبل إرساء الدولة الموعودة التي قد تكون أي شيء سوى «دولة»، وعلى هذا الإرساء تتكون قابلية الفناء، بمعنى توقفها عن الإنجاز، والاستدارة إلى رتق عورات التأسيس بواسطة العنف الممنهج أو الفوضوي كتهديد وجودي مسبق أو لاحق للرعايا الأعضاء في المجتمع، في توصيفات غير متحضرة ولا تدعو إلى تحضر، ضمن كليشهات جاهزة، خبر أهالي المنطقة العديد منها، وأنجزت الكثير من المجازر وإنهيارات البنية التحتية للاجتماع وكذلك للإنتاج.
الدولة المستحيلة، هي تلك «الدولة» التي لم تحقق تنفيذ شروط الدولة المعاصرة وإستحقاقاتها، وهي الأداة/ الضرورة، للعيش في الكرة الأرضية، فماذا لو كانت هذه الدولة لا تعترف بكروية الأرض كشرط من شروط الوجود، ما يقضي باستحالة تعريفها كدولة، وهذا مثال ليس إلا، فاستسهال شطب أي من شروط الدولة المعاصرة، من داخل المعادلة أو من خارجها، فيه خسارة لفهم الدولة و لقدرتها على التفاهم مع الآخر الذي هو موضوع وجودها حسب موقعه في الدوائر والمدارات المحيطة بها، فأي فهم مطلوب من الدوائر الدولية (مثلاً) بُعيد مجازر حصلت و من المتوقع أن يحصل غيرها؟!، وهل سينمحي أثرها في السجل التحضري لإداء السلطة التي تسعى لتأسيس دولة تغفل بعض أو جل الشروط المؤدية إلى وجودها الرشيد في حياة أعضاء الاجتماع المحلي والدولي؟ أوليس من الجزاف المضاعف الاحتكام إلى واقعية هشة معرفياً، للتحكم بالمعرفة بمعناها الرشيد والعالمي لتركيب دولة، يعرف أصحابها قبل غيرهم أنها مستحيلة؟!
هناك اختلاف فاقع ومعلن وكارثي، بين احتكار الدولة للعنف، والغطاء السياسي للعنف، حيث تقوم الدولة بتبريره على حساب مقوماتها، نافية في بذلك جوهرها، خصوصاً إذا كانت تعتبر عن انقلاب على دولة مستحيلة سابقة، لم تنجح في تقديم وضمان الأمن والسلام لأعضاء تجمعها السكاني، وعدم التقديم هذا يؤدي إلى استنساخ تجربة الدولة المستحيلة السابقة، لتبقى البلاد والعباد في مدار الفناء، وليصبح قيام دولة من لدن اجتماع بشري كسيح، لا يستطيع فرض شروط الدولة المعاصرة المفهومة ويمكن التفاهم معها، من المستحيلات أيضاً.
الدولة المستحيلة هي حركة دائرية لا تنتهي، لا يمكن كسرها وإيقافها، إلا بشروط المعرفة المعاصرة، ما يقضي بإنهاء الخطاب الأخلاقي الأجوف، الذي لا يملك مرجعية جامعة له، بمعنى لا يمكن الاعتراض عليه أو اتهامه ومساءلته، ما يعني انتفاء المسؤولية عن المسؤولين، لمجرد كونهم محتكري عنف، وغالباً ما يكون هذا العنف عصي على التبرير إلا بعنف أقسى منه، وهذا ما هو مقصود بالدائرة التي لا تنتهي….حتى بالفناء.

نجيب نصير