«المنبوذ» الذي تألق

قرن ونيف، مرت على ولادة سعيد تقي الدين، وعقود ست مضت على وفاته، هو الأديب المسرحي المتجلي، القاص والخطيب ابن بعقلين /الشوف، ومن أسرة منحت لقب المشيخة وعرفت العلم والجاه في الوظيفة العامة، من العثملي وإلى الانتداب، عمل الاب ليتابع أبناؤه من بعده مناصب قناصل وسفراء.

في أسرة العلم هذه نشأ، وفي بيئة دينية ريفية كَبُر، وإلى حيث تخرجه من الجامعة الأميركية في بيروت تفتحت قدراته في الكتابة للمقال والقصة والمسرح وللخطابة، ثم إلى سفره إلى الفيليبين للعمل، وليكون متقدماً عن سواه من بيئته في الزواج من غير دينه وهو بعد لم يبلغ الثلاثين من العمر، ولينصرف إلى مواجهة بيئة مجتمعة في الاغتراب، والتي لا تبتعد كثيراً عن الواقع داخل بلاده. كما لمسها سعيد، ويقول عنها «نشأنا في ضيع او احياء، نرضع البغضاء ويدلنا اباؤنا على أعداء لبنان من جيران ومواطنين وصار من تفكيرنا التقليدي أن نحاول هدم هؤلاء، الذين قيل لنا في الطفولة والصبا أنهم أعداء.»

هذا الواقع، ربما لم يتغير كثيراً في بلدنا.

ترى أي رفة جناح كان سيعلق فيها هذا الكبير على ما يجري اليوم في بلادنا «يريدون ان يصغروا لبنان حتى يظهروا كباراً، فكلما وسعت آفاق لبنان، كلما ضخم جسده وتقلصت أجسادهم»

هذه القامة الأدبية الكبرى، يصح ذلك ايضاً على قامته الجسدية وهو الطويل القامة، العريض المنكبين، عالي الجبهة، مشبع بالثقة بالنقس هو نوع من الناس لا يعرف الوسطية في الكرم هو سخي لحدود الإفلاس، وفي التدخين إدمان كبير، وصل به إلى حدود ضعف القلب، وفي السخرية لاذع حتى الوجع.

أما في الادب والسياسة، فهو ايضاً من المقدّمين والمقدامين، ليس دخوله الحزب السوري القومي الاجتماعي أول انخراط له بالسياسة، فهو لعب دوراً كبيراً في تعزيز موقف رئيس جمهورية الفيليبين ضد قيام دولة الكيان الإسرائيلي، ثم قيامه بجمع التبرعات لنصرة أهل فلسطين، وكان يومها قنصلاً فخريا للبنان هناك.

 عن دخوله الحزب وممارسته العمل الحزبي المنتظم، يقول انه استعرض الأحزاب والمنظمات واختار الحزب القومي، لأنه كما يقول، ظل يشعر بشيء من القلق وضرورة تركيز جهوده الفردية في هيئة او منظمة.«

 إشارةً أن سعيد تقي الدين دخل الحزب بعمر يقتضي أذناً خاصا من القيادة. ولكنه قبل ذلك عقد جلسات حوار عديدة مع أحد أكبر الأسماء في الحزب أنذاك المحامي عبد الله قبرصي، وبعدما تأكد أن الحزب لا يريد هدم لبنان وأنه لن يؤمر بكتابة شيء أو الكف عنه، بما لا يتناسب وقناعاته، وايضاً، عندما اقتنع أنه لن يكون العنف هو أسلوب الحزب.

هذه المنطلقات الوطنية والقومية في شخصه، هي التي حكمت سلوكه، عندما انتخب رئيسا لجمعية خريجي الجامعة الأميركية في بيروت. ويوم قرر أن يكون لخريجي الأميركية دور أكبر من لعب التنس وحفلات شرب الشاي، أصدر مجلة الكلية التي أراد منها، كما قال «أن يمسك بأذان الدنيا لتنصت إلى صوت العالم العربي المثقف الممثل كل الأقطار والأحزاب». أرادها أن توضح قضية فلسطين وملابساتها وتدافع عنها أمام الرأي العام.

أبو ديانا و «هي كل حياتي-حياته » وحيدته، كما كان هكذا يناديها ويهديها كتبه، وهي التي استمرت تحفزه للكتابة.

رجل المفاجآت، إن في خياراته الحزبية أو انهماكاته وانغماسه في إنشاء مبنى جمعية الخريجين، وفي انصرافه إلى تعزيز وعي مجتمعه واعداده للمواجهة عند تأسيسه جمعية «كل مواطن خفير»، مع الدكتور بشارة الدهان، بهدف مكافحة الصهيونية شعبياً. واستطاع من خلالها كشف العديد من أسماء العملاء دون أن يردع شجاعته في هذا الأمر، أي تهديد.

لكن تهديدا من نوع آخر، من عبد الحميد السراج وكان يستهدف حياته، كما استهدف حياة الضابط الكبير غسان جديد، واغتياله في بيروت، دفعه إلى ترك لبنان والعودة مجدداً إلى اميركا الجنوبية.

الأديب النهضوي، سعيد تقي الدين تميزت لغته عن سواه، بأسلوبه الخاص، يقول عنها الباحث الراحل جان داية، أنها «السعتقة».

في السعتقة نجد عبارات جديدة قد لا تجدها في القواميس العربية مثلا زحفطة، «رياضياتنا ورياضاتهم»، «شمدص جهجاه ».

 سعيد هو «لولا المحامي» هو «غابة الكافور»، «انا والتنين » وايضاً «المنبوذ»، وغيرهم …الخ ربما يصح فيه القول إنه الحجر الذي رذلة البناؤون فصار هو رأس الزاوية.

الاديب الكبير يحفظ له القوميون الاجتماعيون انه وثق اللحظات الأخيرة لمؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة، وهو الفيلسوف وعالم الاجتماع والمفكر الذي اعدمته السلطة اللبنانية دون محاكمة في أبشع جريمة بحق بيروت صاحبة اول كلية للقانون والشرائع، فنقل من خلال نصه الادبي (حدثني الكاهن الذي عرّفه)، حكاية الكاهن الاب الياس معماري ولقائه سعادة قبل تنفيذ حكم الإعدام العسكري به، فكان التوثيق الارقى الذي تم ولو بعد سنوات فقرأها ولا يزال أبناء حزبه الى الان فتلامس وجدانهم وأيضا عنفوانهم.

سعيد تقي الدين بكر أهله، قضى حياته حسبما قال «يقنع أمه انه لم يعد طفلاً» يقول لكن الصعوبة الأكبر كانت أن يقنع امته انه صار رجلاً.

المنبوذ، المفلس، الذي عمل في العشر سنوات الأخيرة من عمره، كما لم يعمل طيلة حياته، غادر بيروت مرة ثانية، زاده إرادة مستمرة في الكتابة وصحة سيئة وقلب ضعيف.

وإلى اميركا الجنوبية مجدداً، حيث رغم وهنه ومرضه استمر يعمل ويكتب حتى آخر لحظة من عمره.

المفارقة وكعادة نظامنا التربوي في لبنان، أنه يتجاهل أهل القلم هؤلاء ويترك طلابنا في خواء لغوي، يجب ترميمه، في لغتنا العربية والتعرف جيداً على لغة جميلة بكل بيانها الحسن وعلى نصوص سعيد تقي الدين وسواه ربما من مغبونين آخرين.