ثانيا: نشأة مفهوم «المجتمع المدني» وتطوره.
بعد الملاحظات المتقدمة، التي عالجنا فيها صفات هيئات «المجتمع المدني»، نلقي نظرة موجزة على نشأة مفهوم «المجتمع المدني» وتطوره في الفكر الغربي والتاريخ القومي والعربي.
إنّ أول إشارة وردت في التاريخ، بمعنى «الدولة المدنية» تعود إلى عهد «الحضارة الكنعانية»، فقد أنشأ الفينيقيون (الكنعانيون) السوريون الدولة المدنية التي كانت طرازا جرى عليه الاغريق والرومان.. وباكرا اسس الفينيقيون الملكية الانتخابية، وجعلوا الملك منتخبا لمدى الحياة، فسبقوا كل الشعوب والدول التاريخية إلى تأسيس الدولة الديمقراطية. وما الدولة الديمقراطية سوى دولة الشعب أو دولة الأمة. هي الدولة القومية المنبثقة من ارادة المجتمع الشاعر بوجوده وكيانه. وان المحافظة على الرباط الوطني القومي عند الفينيقيين، ظل ملازماً لهم في انتشارهم في طول البحر السوري (الأبيض المتوسط) وعرضه، وفي المستعمرات والامبراطوريات التي انشأوها، فظلت الحقوق المدنية في الزواج والاختلاط وجميع المظاهر الاجتماعية والثقافية واحدة لهم جميعاً، ولم يكن هنالك استثناء الا في الحقوق السياسية(1).
اما الظهور الحديث لفكرة المجتمع المدني في الغرب، فقد ولدت مع الفيلسوف الالماني هيغل (1770-1831)، صاحب المنطق الديالكتيكي(2).
بعد هيغل صار «المجتمع المدني الموضوع الأساسي الذي انصب عليه نقد كارل ماركس (1817-1883) في مجمل كتاباته، ونقد فوكو (1819-1968) (3)، أما المفكرون والفلاسفة الذين تعرضوا في كتاباتهم إلى المجتمع المدني بين القرنين السابع عشر والثامن عشر فقد كانوا كثيرين: «نذكر منهم، أولاً من كانوا يدعون بفقهاء الحق الطبيعي (Les jurisconsultes) ومن هؤلاء غروشيوس وبوفندروف. ونذكر جو لوك، وتوماس هوبز، وبارخ سبينوزا، ومونتسكيو، وجان جاك روسو، وهؤلاء ينتمون إلى بلدان أوروبية متعددة: هولندا، بريطانيا، فرنسا وسويسرا..»(1)
نستخلص من هويات هؤلاء وكتاباتهم الملاحظات الآتية:
أولاً: ينتمي هؤلاء الكتاب إلى مجتمعات اوروبية متباينة،
ثانياً: آراؤهم في «المجتمع المدني»، متناقضة، وهذا ما يفسر الجدل القائم بينهم، والذي أدى إلى نشؤ فسيفساء فلسفي، بدل النظرة الواحدة للموضوع.
ثالثاً: يفصلون في كتاباتهم بين «المجتمع» والسلطة السياسية وآليتها.
رابعاً: يقولون بالصراع بين «المجتمع المدني» و«الدولة»
خامساً: يتخذون من «المجتمع المدني» وسيلة لبلوغ الديمقراطية.
سادساً: يستعملون تعابير غير واضحة المفهوم: المجتمع، المجتمع المدني، المجتمع السياسي، النظام الجديد..
سابعاً: وتتقاطع مقومات «المجتمع المدني» عندهم في ثلاثة أمور:
أ ـ حالة المجتمع.
ب ـ التعاقد الاجتماعي.
ج ـ مبدأ السيادة.
لعل النتيجة الرئيسية، التي نخرج بها من دراستنا لنشؤ فكرة المجتمع المدني في الفكر الغربي، هي أن ميلاد مفهوم المجتمع المدني ونشأته وتطوره، في العالم الغربي، مرتبط بميلاد ونشأة الدولة الحديثة وتطورها، أو بالأحرى بالدولة في التصور الحديث لها، وهذا يعني أنه لا يكاد يعقل التفكير في المجتمع المدني مع اقصاء والغاء تأمين الدولة، وانما هما مجالان ملتحمان أشد ما يكون الالتحام، وان بدا للناظر بينهما افتراق وتباعد للوهلة الأولى(1) ، واذا كان هذا هو الحال في نشؤ فكرة «المجتمع المدني» في الفكر الغربي، فكيف نشأت هذه الفكرة وتطورت في التاريخ العربي؟
- نشأة فكرة «المجتمع المدني» وتطورها في «التاريخ العربي».
يعود استخدام فكر «المجتمع المدني» في التاريخ العربي إلى ابن خلدون، الذي ميز بين «السياسة المدنية» وسياسة الحكومة بوازع الحاكم المستند إلى شرع منزل، وعن السياسة العقلية، بقوله: «وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب، وانما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأسا». ويعتبر الفارابي (ت 950)، أعظم «فلاسفة العرب»، وقد وضع عدة مؤلفات، يستفاد من عناوينها، انه تطرق إلى موضوع «المجتمع المدني» ومن ابرز مؤلفاته في هذا المجال: «السياسة المدنية»، و «آراء أهل المدينة الفاضلة»(2).
إنّ الحديث عن «المجتمع المدني» ومظاهره في التاريخ العربي، أو الإسلامي على وجه أعم، يثير بداهة وبداية، عددا من التساؤلات والتحفظات. فالمصطلح حديث، وان استخدم التعبير في التراث الفكر العربي عند الفارابي وابن خلدون، على سبيل المثال. وهو في نشأته شديد الالتصاق بالتجربة الغربية، لا سيما في وجهها الليبرالي – الديمقراطي…(1) ، ولعل رفاعة الطهطاوي (1801-1873)، هو من اوائل المفكرين العرب، في العصر الحديث، الذين وضعوا المعالم الأولى لمركب ثقافي اجتماعي يجمع بين الحداثة والتراث.. انه الرائد الأول في «الفكر العربي» الحديث الذي وقف على التجربة السياسية الأوروبية، وخاصة فيما يتعلق بالمدافعة عن الحقوق المدنية للمواطنين ودور الشعب في الثورة وقوته، وما يمكن ان يقوم به(2).
ومن بين أبرز اسماء رواد المفكرين العرب الذين تصدوا لهذا الموضوع، نذكر خير الدين التونسي، الذي سار على خطى الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني (1839-1897)، والشيخ محمد عبده (1849-1905)، وعبد الرحمن الكواكبي (1854-1902) وغيرهم.
وخلاصة القول ان بعض مفكري «البلدان العربية» ساهموا منذ مطلع القرن التاسع عشر عبر محاولات جادة لتقديم مشاريع نهضوية تحديثية من قبل جماعة من المفكرين المستنيرين، بحيث شكلت هذه المشاريع وفي وقت مبكر البنى الأساسية التي قام عليها «الفكر العربي» الحديث، الذي مهّد لظهور مرحلة الفكر القومي بمبادئه السياسية ومفاهيمه الجديدة، وأدخلت الفكر العربي في طور جديد من أطواره(1).
يــتــبــع.
(1) – انطون سعاده : نشؤ الأمم ، مرجع سابق ، ص 179-180
(2) – هيغل ( فردريش) Hegel. ولد في شتوتغرت. فيلسوف الماني قال: ان الكائن والفكر شيء واحد هو الفكرة. والفكرة تتطور على مراحل: الاثبات ثم النقض ثم الخلاصة. له « المنطق الكبير» و « مبادئ فلسفة الحق».
(3) – حيدر حاج اسماعيل: مجلة فكر، العدد 87 ، آذار 2005، ص 87.
(1) – سعيد العلوي : المجتمع المدني في الوطن العربي.. مرجع سابق، ص
(1) سعيد العلوي: المجتمع المدني في الوطن العربي، مرجع سابق ص 64
(2) – المنجد في اللغة والاعلام: مرجع سابق، ص 516: « الفارابي ( ابو نصر محمد)… من أعظم فلاسفة العرب.. لقب بالمعلم الثاني بعد ارسطو.. من مؤلفاته:» الجمع بين رأ ي الحكيمين«، «رسالة نصوص الحكم» ، و « كتاب الموسيقى الكبير»..
(1) – وجيه كوثراني: المجتمع المدني في الوطن العربي، « المجتمع المدني والدولة في التاريخ العربي»، مرجع سابق، ص 119
(2) – معن زيادة: المجتمع المدني في الوطن العربي، « المجتمع المدني والدولة في فكر النهضة العربية الحديثة» مرجع سابق، ص 157
(1) – معن زيادة : المرجع السابق نفسه، ص 170