الحب وجذوره التاريخية  ـ الحلقة الثانية

الفصل الثاني: انتقال الأساطير بين سومر والحضارة الغربية «أدونيس ـ دي موزي»

يُعتقد أن الاحتفال بعيد الحب كما نعرفه اليوم، هو تقليد غربي مستورد من العصور الوسطى الروماني تحديداً والحاقه بالقديس فالنتاين، لكن الحقيقة كما تبين لنا أعمق بكثير، وتعود جذور هذا العيد إلى حضارات المشرق العظيم وهذا هو الهدف من وراء دراستنا البحثية هذه. حيث احتفلت الحضارات السومرية والبابلية والآشورية والكنعانية بطقوس الحب والخصوبة والتي من خلالها كُرمت الإلهة إنانا إلهة الحب والجمال، في احتفال سنوي مقدس يشبه إلى حد بعيد ما نراه في تقاليد إغريقية ورومانية لاحقاً.[1]

1 – احتفالات الزواج المقدس بين إنانا وديمومي – الجذور الحقيقية لعيد الحب.

كما وذكرنا من خلال الفصل الأول كيف كان تجري طقوس الزواج المقدس في بلاد سومر، حيث يُعيد الملك تمثيل زواج إنانا بدي موزي، كان هذا الطقس يُقام في بداية الربيع ويهدف إلى جلب «البركة» والمحبة للناس. وكان يترافق مع تبادل الهدايا والزهور، في مشهد يذكرنا إلى حد كبير بطقوس عيد الحب اليوم.

لكن الاغريق تبنوا في فترات لاحقة هذا الطقس في عبادة أفروديت وأدونيس، حيث نجد التشابه الواضح بين قصة إنانا ودي موزي، والتي تتحدث عن حب مأساوي يشبه تماماً السردية الرافدينية الاصلية.[2]

2 – من إنانا إلى أفروديت

عندما بدأت الحضارة الإغريقية بالتوسع، استلهمت العديد من أساطيرها من الحضارات المشرقية، كما رأينا، حيث انتقلت عبادة إنانا إلى الإغريق في صورة أفروديت، إلهة الحب.[3]

هناك احتفال إغريقي يعرف ب «أنثيستيريا» أو عيد الحب والخمر بحيث يشبه تماماً الزواج المقدس الرافديني، حيث يتم تكريم ديونيسوس، إله الخصوبة، مع تقديم الورود والهدايا، في طقس مشابه تماماً لما كان يحدث في بلاد المشرق. قبل ذلك بحوالي 2000 عام[4]

3 – من إنانا إلى فينوس إلى القديس فالنتاين

عندما سيطر الرومان على العالم عبر الثقافة الهلنستية، ورثوا الكثير من التقاليد الدينية الإغريقية، بما في ذلك الاحتفالات المتعلقة بالحب. تبنى الرومان الإلهة فينوس (إنانا أو أفروديت) واستمروا في الاحتفال وهو احتفال روماني يُقام في منصف شباط عبر طقس «لوبركاليا» يتضمن طقوساً مرتبطة بالحب والخصوبة والزواج، مما يعكس ايضاً وبوضوح التأثيرات المشرقية القديمة.[5]

هذا الاحتفال استمر حتى العصر الوسيط تحديداً المسيحي، عندما تم تحويله إلى عيد القديس فالنتاين في محاولة لطمس جذوره المشرقية القديمة. لكنه في الواقع ليس سوى إعادة تدوير لتقاليد تعود إلى إنانا ودي موزي في بلاد ما بين النهرين.[6]

أذا يمكن التأكيد هنا، إن عيد الحب ليس مجرد تقليد غربي، بل هو طقوس يعود إلى الحضارات المشرقية حيث كان يُحتفل به في طقوس الزواج المقدس بين إنانا ودي موزي، ثم انتقل إلى الإغريق تحت اسم أفروديت وأدونيس، قبل أن يتبناه الرومان عبر فينوس، وأخيراً تم إلباسه ثوباً مسيحياً تحت أسم عيد القديس فالنتاين. وهكذا يمكننا القول إن الحب قد يكون عالمياً، لكن عيد الحب تحديداً هو هدية قدمها المشرقيون للعالم رغم أن الفضل لم يُنسب إليهم!!!

الفصل الثالث: الحب بين الفلسفة والدين – «السيد المسيح ودي موزي»

يبدو أنه وعلى مر العصور، كان الحب مفهوماً معقداً، حيث امتزج بين المشاعر الفطرية والبعد الفلسفي – الديني، وبينما يرى الفلاسفة الحب كقوة محركة للكون، اعتبرته الأديان أسمى أشكال التضحية والفداء.

وفي تاريخ الحضارات، نجد تشابهًا مدهشاً بين شخصية دي موزي في الميثولوجيا الرافدينية وبين السيد المسيح في المسيحية، فكلاهما يمثل نموذج الحب الفدائي المأساوي، حيث يضحي بنفسيهما من أجل الآخرين، هذا التشابه ليس مجرد صدفة، بل يعكس جذوراً فلسفية ودينية مشتركة في رؤية الحي كقوة خلاصيه.

هنا سنحاول أن نبين كيف جسد كل من دي موزي والسيد المسيح هذا المفهوم:

1 – الحب الفدائي

في الأسطورة السومرية نرى كيف دي موزي الحبيب ينزل إلى العالم السفلي وكيف كيف كان راعياً محبوباً للإلهة إنانا، وعندما قررت إنانا النزول إلى ذاك العالم، واجهت الموت، وحينما عادت، كان لا بد أن يحل محلها شخص ما في الجحيم.

فتم التضحية بالمحبوب دي موزي، ليقضي ستة أشهر هناك، وهو تجسيداً لمفهوم الحب الفدائي، حيث يُضحى بالحبيب من أجل استمرار الحياة.[7]

أما في المسيحية، فينظر إلى السيد المسيح على أنه التجسيد الأسمى للحب الفدائي، حيث يُصلب من أجل فداء البشرية، [8]السيد المسيح كديمومي، يُقتل ظلماً، لكنه يعود للحياة رمزاً للخلاص والتجدد. وهنا التشابه أصبح واضحاً: ديموزي يضحي بنفسه لينقذ العالم من الخراب. والسيد المسيح يضحي بنفسه ليخلص البشرية من الخطيئة.

2 – الحب بين الألم والخلاص

دي موزي لا يموت فقط، بل يعاني في الجحيم، ويُضرب ويُساق كالمجرمين، في طقس درامي يجسد فكرة الألم المرتبط بالحب. هذ ا التصور يشبه إلى حد بعيد معاناة السيد المسيح خلال عملية الصلب، حيث يسير في طريق الآلام قبل موته.[9]

في المسيحية، يرتبط الحب بالألم بشكل وثيق، حيث يُرى أن أعظم أشكال الحب هو الاستعداد للموت من أجل الآخرين. هذا المفهوم يتجلى في صلب السيد المسيح، حيث يتحمل العذاب الجسدي والنفسي من أجل خلاص البشرية، تماماً كما عانى دي موزي في العالم السفلي.[10] 

3 – العودة والانتصار

رغم موت دي موزي لكنه لا يختفي، بل يعود إلى الحياة في نصف العام الآخر، ما يرمز إلى استمرارية الحب رغم الألم والفناء، الحب هنا يتجاوز الموت، ويصبح قوة دائمة تتجدد مع الفصول، مما يعكس مفهوم البعث والخلود في الحب الأسطوري. عودة دي موزي لا تمثل فقط الفداء، بل ترسخ فكرة أن الحب الحقيقي لا يموت، بل يمر بتحولات، لكنه يبقى خالداً في دورات الحياة. هذا التشابه بين فكرة «البعث» في الميثولوجيا السومرية وفكرة «القيامة» في المسيحية يوضح مدى عمق هذا الإرث الثقافي المشترك.[11]

في المسيحية، قيامة السيد المسيح من بين الأموات ليست مجرد حدث ديني، بل هي لانتصار الحب الأبدي على الموت. وأن السيد المسيح الذي صُلب حباً بالبشرية، يعود للحياة، ليؤكد أن الحب لا يهزم بالموت، بل يتجاوزه نحو الخلود. كما أن قيامة السيد المسح تعطي معنى جديداً للحب، فهو ليس مجرد عاطفة، بل قوة روحية قادرة على تغير مصير الإنسان، كما أن عودة دي موزي كانت رمزاً لاستمرار الحياة وتجديدها، مما يعكس نفس الفكرة الدينية العميقة.[12]

إذا أن الحب بين الفلسفة والدين يعني انها التضحية بأسمى أشكال الحب. فعند مقارنة دي موزي بالسيد المسيح، نجد تشابهاً مذهلاً في المفهوم الفلسفي والديني للحب.

أ – التضحية الفدائية بحيث كلاهما يموت من أجل الآخرين.

ب – الألم كطريق للخلاص – كلاهما يعاني بشدة، لكنهما يصبحا رمزاً للحب الحقيقي.

ج – الخلود عبر الحل – كلاهما يعود للحياة ليؤكدا أن الحب لا ينتهي بالموت.

أذا ما نستنتجه من هذا هو أن الحب، في أعمق صورة، ليس مجرد شعور رومانسي، بل هو فعل تضحية، قوة روحية تتجاوز الألم والموت، وتستمر للأبد. سواء في اساطير سومر، أو في العقيدة المسيحية، نجد أن الحب ليس مجرد حياة، بل هو سر الخلود ذاته. من هنا يمكن التأكيد أن العقيدة المسيحية تقوم على مفهوم التضحية المطلقة، حيث يُنظر إلى السيد المسيح كقربان للفداء، مما يعيد إنتاج النمط الذي ظهر في اسطورة سومر.[13]

يتبع في الجزء الثالث مجنون ليلى ودي موزي


[1]  هيرودوت – التواريخ – أشار إلى أن الإغريق أخذوا كثيراً من تقاليدهم الدينية من البابليين، في إشارة واضحة إلى هذا التأثير العميق- ترجمة عبد الله الملاح- دار الكتاب العربي الكتاب الأول- الفصل 131

[2]  كرايمير، صامويل نوح – الواح سومر – ترجمة طه باقر – ص: 210-215

[3] بورستد، جيرمي – الميثولوجيا الإغريقية وتأثيراتها الشرقية- ص: 132-135

[4] هيرودوت – التواريخ – ترجمة عبد الله الملاح- دار الكتاب العربي الكتاب الثاني – الفصل 112

[5] فريز، جيمس جورج – الغصن الذهبي – ص: 233-237

[6] هيرودوت – التواريخ – الكتاب الثالث – الفصل 98

[7]  كريمر، صامويل نزح – ألواح سومر – ص: 178-182

  [8] الكتاب المقدس- العهد الجديد – إنجيل يوحنا 3:16

[9]   بوتيرو، جان – ديانة بابل – ص: 132-135

[10]  الكتاب المقدس – العهد الجديد – إنجيل متى- 27:46

[11]  كريمر، صامويل نوح – ألواح سومر – ص: 185-189

[12] الكتاب المقدس – العهد الجديد – إنجيل يوحنا – 26-11:25

[13] براون، دان – شيفرة دافنتشي – دار دابلداي – 2003 – ص: 174-180

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *