مفهوم الوطن عند أنطون سعاده وفلسفته القومية الاجتماعية

📍نظرة عامة ومقدمة تاريخية:

أنطون سعاده (1904–1949) هو مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي (SSNP) وواضع فلسفة القومية الاجتماعية في ثلاثينيات القرن العشرين. شكلت فكرة الوطن محورًا أساسيًا في فلسفته؛ فلم يكن الوطن عند سعاده مجرد حدود جغرافية، بل كان كيانًا اجتماعيًا حيًا ترتبط به هوية الأمة وكرامتها ومصيرها. جاء فكر سعاده في سياق تاريخي تميز بتقسيم بلاد الشام عقب اتفاقية سايكس–بيكو والاستعمار الفرنسي والبريطاني للمنطقة، إضافة إلى تصاعد الأفكار القومية عالميًا وظهور تحديات مثل الصهيونية في فلسطين. كل ذلك دفعه إلى إعادة تعريف الهوية الوطنية السورية وتحديد مفهوم الوطن بشكل جذري ومختلف عن التصورات التقليدية.

📍الوطن والأمة في فلسفة القومية الاجتماعية:

يرى سعاده أن هناك وحدة عضوية لا تنفصم بين الأمة والوطن. فالوطن في نظره هو المحيط الجغرافي–الاجتماعي الذي تنشأ فيه الأمة وتتحقق وجودها. يؤكد سعاده بوضوح: «فالأمة بدون وطن معيَّن لا معنى لها، ولا تقوم شخصيتها بدونه». بهذا المعنى، لا يمكن فصل مفهوم الأمة عن الأرض التي تحتضنها؛ فالوطن هو أساس الحياة القومية والعامل الجوهري في تكوين شخصية الأمة.

انعكس هذا المفهوم في مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي. ينص المبدأ الأول على «سورية للسوريين والسوريون أمة تامة»، ما يعني أن الشعب السوري وحدة قومية مكتملة لها حق السيادة على نفسها وعلى وطنها. وتُشرح هذه السيادة بأن الأمة السورية هي وحدها صاحبة الحق في ملكية كل شبر من أرض الوطن السوري والتصرف به، أي أن الوطن ملك عام مشترك للأمة جمعاء، ولا يجوز لأي فرد أو فئة التصرف بأي جزء منه بشكل يُخل بوحدته. يقول سعاده بهذا الصدد: «يعني من الوجهة الداخلية أنّ الوطن ملك عام لا يجوز، حتى ولا لأفراد سوريين، التصرّفُ بشبرٍ من أرضه تصرّفًا يُلغي، أو يمكن أن يُلغي، فكرة الوطن الواحد وسلامة وحدة هذا الوطن الضرورية لسلامة وحدة الأمة السورية». يتضح هنا أن وحدة الأرض السورية مقدسة في فلسفة سعاده، وأي انتقاص من هذه الوحدة يُعدّ مساسًا بجوهر الأمة نفسها.

وشدّد سعاده في المبدأ الثالث على تحديد ماهية القضية القومية بأنها قضية «الأمة السورية والوطن السوري» معًا. وقد أوضح «العلاقة الحيوية، غير القابلة للفصل، بين الأمة والوطن» بحيث يتكوّن مصير الأمة ضمن حدود وطنها. بل إنه اعتبر «الترابط بين الأمة والوطن هو المبدأ الوحيد الذي تتم به وحدة الحياة» الاجتماعية والقومية. وبذلك يرفض سعاده التعريفات القومية التي تتجاهل الأرض (مثل حصر الأمة بعنصر عرقي أو ديني فقط)، لأن وحدة الأمة والوطن هي ما يضمن وحدة المصالح والمصير المشترك.

ضمن هذا الإطار، عرف سعاده الوطن السوري (سورية الطبيعية) تعريفًا واضحًا بموجب الجغرافيا والتاريخ. فالوطن السوري عنده هو «البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية» بحدود جغرافية تمتد من جبال طوروس والبختياري في الشمال، إلى قناة السويس وشبه جزيرة سيناء والبحر الأحمر في الجنوب، ومن البحر السوري (البحر المتوسط) في الغرب بما فيه جزيرة قبرص، إلى قوس الصحراء العربية وخليج فارس في الشرق. وقد أطلق على هذه المنطقة وصف “الهلال السوري الخصيب”. هذا التحديد ليس مجرد وصف جغرافي، بل هو تأكيد أن هذه الرقعة الموحّدة احتضنت عبر التاريخ تفاعلًا بين شعوبها أدى إلى اندماجهم في شعب واحد ذي شخصية واضحة هي الأمة السورية. بذلك يصبح الوطن إطارًا جغرافيًا، حضاريًا نشأت فيه ثقافة مشتركة ووعي قومي واحد، مما يرسّخ حق السوريين الحصري في أرضهم ووحدتها.

📍من أقوال أنطون سعاده حول الوطن ومعانيها:

حرص سعاده في خطبه وكتاباته على توضيح مفهوم الوطن وربطه بنهضة الأمة وكرامتها. فيما يلي بعض أبرز أقواله في هذا الموضوع، مرفقة بشرح موجز لدلالتها:

💢«إن الكنعانيين من بين جميع شعوب التاريخ القديم، كانوا أول شعب تمشَّى على قاعدة محبّة الوطن والارتباط الاجتماعي وفاقًا للوجدان القومي وللشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير» يربط سعاده هنا جذور فكرة الوطن بحضارات سوريا القديمة (الكنعانيين/الفينيقيين). فهو يرى أن شعوبنا في فجر التاريخ كانت السباقة إلى ابتكار شعور الانتماء الوطني ووحدة المصير. يستلهم سعاده هذه الفكرة من قول أفلاطون بأن الفينيقيين ابتكروا الفكرة الوطنية (ما سمّاه أفلاطون “الخديعة الفينيقية”)، وهذا الربط يمنح مفهوم الوطن بعدًا حضاريًا عريقًا في فلسفة سعاده.

💢«الأمة بدون وطن معيّن لا معنى لها، ولا تقوم شخصيّتها بدونه»، يعكس هذا القول خلاصة فلسفة سعاده القومية، فوجود الأمة مرهون بوجود أرض تجمعها. الوطن هنا ليس مجرد بقعة على الخريطة، بل شرط لنهضة الأمة وهويتها. إذا فقدت الأمة وطنها أو تشتتت خارجه، تفقد معناها وكيانها المتكامل.

💢«إنّ التفريط في حقوقنا بعدم اعتبار سورية أمة تامة، وإنّ سورية الوطن هي للأمة التامة، هو الذي أفقدنا أجزاءً غنية ويهدّدنا اليوم بفقد فلسطين»، يحذر سعاده في هذا الاقتباس من نتائج تجاهل وحدة الوطن والأمة. فهو يُرجع خسارة أجزاء من الأرض (مثل لواء الإسكندرون سابقًا وفلسطين لاحقًا) إلى غياب الشعور بوحدة الهوية القومية السورية. بمعنى آخر، التقصير في التشبث بمبدأ “سورية للسوريين” قاد إلى ضياع أراضٍ وطنية لصالح قوى خارجية.

💢«اقتتالُنا على السماء أفقدَنا الأرض»، بهذه العبارة المقتضبة ينتقد سعاده الصراعات المذهبية والدينية التي فرّقت أبناء الوطن الواحد. فهو يقول إن انشغال السوريين بالتنازع على أمور الغيب (السماء) جعلهم يهملون الدفاع عن وطنهم (الأرض)، مما أدى إلى فقدانه أو انتقاص سيادتهم عليه. وهذه دعوة صريحة منه لتقديم مصلحة الوطن ووحدته على أي خلافات فكرية أو عقائدية ضيقة.

هذه الأقوال تؤكد كلها على رسالة واحدة في فلسفة سعاده: الوطن قيمة عليا وهوية حية. حب الوطن والولاء له لا يُترجم برفع الشعارات فقط، بل بفهم عميق لوحدة المجتمع وأرضه، وبالاستعداد للتضحية في سبيل كرامة الأمة وسيادة أرضها.

📍السياقات الفكرية والتاريخية المؤثرة في رؤية سعاده:

تشكّلت نظرة أنطون سعاده للوطن تحت تأثير مجموعة ظروف تاريخية وفكرية خاصة. من الناحية الفكرية، تأثر سعاده بالدراسات التاريخية والنظريات الفلسفية التي تربط نشوء الأمم بالأرض والتفاعل الاجتماعي. قرأ سعاده في أعمال الفلاسفة والمؤرخين، مثل أطروحة أفلاطون عن “الخديعة الكنعانية” التي ذكرت أن الفينيقيين ابتكروا مفهوم الهوية الوطنية. وقد وظّف ذلك لتعزيز فكرته بأن شعوب سوريا الطبيعية كانت صاحبة السبق في ولادة الوجدان الوطني وحب الوطن منذ القديم. كذلك برز في كتاباته ميل لتفسير نشوء الأمة بمنهج علمي اجتماعي، معتبرًا أن العوامل الجغرافية (البيئة الطبيعية للوطن) هي التي ساعدت على تفاعل الأقوام وتكوين الشخصية القومية المميزة للسوريين. هذا المنحى يذكّر بأفكار المدرسة الجغرافية في علم الاجتماع التي تعطي للبيئة والاقتصاد دورًا في تشكيل الأمم.

أما سياقه التاريخي المباشر، فقد تبلورت أفكاره على وقع تفكك السلطنة العثمانية والاستعمار الأوروبي. عايش سعاده شبابه خلال الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا، حيث قُسمت سوريا الطبيعية إلى كيانات سياسية (لبنان الكبير، سوريا، فلسطين/الأردن، والعراق تحت الانتداب البريطاني). رأى سعاده في هذه التجزئة خطرًا يهدد هوية السوريين ووحدة وطنهم، خاصة مع تنامي ولاءات محلية أو طائفية ضيقة على حساب الشعور القومي الأوسع. لذلك جاء تأسيسه للحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1932 كمحاولة لمقاومة تلك التجزئة واستعادة مفهوم الوطن الموحّد الذي يضم كل أبناء الأمة السورية بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والإقليمية. وقد أكد منذ البداية أن حزبه “فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها” تسعى لتوحيد الشعب ضمن وطنه الواحد.

أيضًا، شاهد سعاده صعود الحركات القومية الأخرى في العالم وتأثر بها. فرغم خصوصية مشروعه، استفاد من نموذج تنظيم الأحزاب القومية الأوروبية في عصره (من حيث المركزية والانضباط الحزبي) لتعزيز الوحدة الداخلية للحزب الجديد. لكنه رفض عنصرية بعض تلك الحركات، فقوميتّه اجتماعية مدنية لا تقوم على نقاء عرقي أو أفضلية دينية. وقد جابه بقوة الفكر الذي كان سائدًا آنذاك باعتبار السوريين مجرد جزء من أمة أخرى (كالأمة العربية بالمفهوم الواسع) دون خصوصية، أو اعتبار ولاءات إقليمية ضيقة (لبنانية، فلسطينية…) كبديل عن الهوية السورية الشاملة. طرح سعاده بديلًا واضحًا: هوية قومية سورية جامعة ترتكز إلى أرض مشتركة وتاريخ اجتماعي مشترك. وبرأيه، هذا الوعي القومي وحده هو الكفيل بتحصين الوطن واستعادة مكانته بين الأمم.

ولا يمكن إغفال تأثير الخطر الصهيوني في فلسطين على بلورة رؤية سعاده للوطن. فمع تصاعد المشروع الصهيوني خلال الأربعينيات، تنبّه سعاده إلى أن غياب الوحدة القومية السورية سيسهل اقتطاع أجزاء من الوطن (كما حصل في فلسطين عام 1948). وقد اعتبر أن سعي اليهود لإقامة وطن قومي لهم دليل على صحة نظريته بأن الأمة بحاجة لوطن وإلا فقدت وجودها الفعلي. هذا الخطر الداهم جعل سعاده أكثر إصرارًا على دعوة السوريين لتجاوز خلافاتهم الداخلية والوقوف صفًا واحدًا دفاعًا عن أرضهم وحقوقهم. فالوطن عنده ليس مجرد فكرة عاطفية، بل هو “قضية حياة أو موت” للأمة بأسرها، تتطلب الوعي والإرادة والنضال المستمر.

خلاصة:

شكل مفهوم الوطن حجر الزاوية في فلسفة أنطون سعاده القومية الاجتماعية. فقد أعاد تعريف الوطن من مجرد مساحة جغرافية إلى وعاء الحياة القومية وموئل نهضة الأمة. الوطن عند سعاده هو الوحدة الجغرافية الطبيعية التي تصنع من الجماعات شعبًا واحدًا، وهو الفضاء الاجتماعي الذي تتبلور فيه هوية المجتمع وثقافته. من هنا كانت قدسية وحدة الوطن وضرورة سيادة الأمة عليه، واعتبار أي انتقاص من هذه السيادة تهديدًا وجوديًا. هذه النظرة كانت حصيلة فهم عميق للتاريخ السوري ولتجارب الأمم الأخرى، وكذلك رد فعل مباشر على تحديات عصره من استعمار وتفتيت وصراعات أهلية. وبرؤية استشرافية، أكد سعاده أن نهضة الوطن هي السبيل لحياة العز والكرامة للأمة جمعاء – تلك الحياة الحرة الموحدة التي تغلب فيها إرادة الشعب كل عوامل التفريق والتبعية. لقد جسّد أنطون سعاده بفكره وجهاده مقولة “حب الوطن من الإيمان بالحرية والكرامة”، وظلت كلماته وآراؤه نبراسًا للفكر القومي الاجتماعي في فهم معنى الوطن والدفاع عنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *