شيخوخة الدولة

من طبيعة الدنيا والأشياء، أن هناك تجدد وتطور، وما الشيخوخة إلا إيذاناً بالموات، والموات الحضاري ناتج عن شيخوخة، لا تريد الإرتقاء والتطور، من أجل البقاء والإستمرارعلى الأقل، ومن أهم الشيخوخات التي تواجهنا بحياتنا نحن السوريون، هي السلطة والحكم، أو ما يسمى جزافاً «دولة»، والفارق بينهما شاسع جداً، يماثل المسافة بين الإستقلال من العثماني إلى يومنا هذا، إذ لم تدخل «الدولة» ثقافتنا، حكاماً ومحكومين، ولم تمارس «دولة» إدارتها لإمكانيات البلد الذين نحن سكانه، نعيش في بيئة واحدة، هي بيئته، نتقاسم البرد والأوبئة، والشبع والأمان، دون أية فوارق موضوعية بين أبنائه، وكانت السلطة بما أنها تشعر وكأنها «دولة» تحتكر العنف، تقوم بإستثناءات تعدم على خشبتها المساواة، الركن الأساسي لوجودها، إذا كانت جدية في هذا المسعى.

الدولة لا باردة ولا ساخنة، لا أنثى ولا ذكر، ولا مؤمنة أو غير مؤمنة، لإنها تكنولوجية، والتكنولوجيات تشتغل قسراً، في خدمة مشغلها طالما زودها بأسباب الإشتغال، و«الدولة» كما اكتشفها العالم والعلماء، هي تكنولوجية إدارة المجتمعات، والمجتمعات هي موضوع الدولة، لذا تحافظ عليها «الدولة» سليمة معافاة، تحت مظلة المصالح، فالمجتمعات تتوحد على المصالح وليس شيء آخر مهما كان مبجلاً أو حتى مقدس، فالمجتمع والدولة، تكنولوجيتان دنيويتان، تعملان لغايات واضحة، يغذيهما الدستور و الإرادة المجتمعية فتعملان على كافة الأصعدة من أجل الشبع والمنعة الدنيويان، وعليه نلحظ الحاجة إلى التطور والإرتقاء لملاقاة التحديات التي تفرضها الدنيا على سطح هذه الكرة الأرضية.

لا يكفي لفظ «دولة» التاريخي واللغوي، للإشارة إلى وجود دولة، تماماً مثلما لا يجدي البتة، صناعة دستور مبني على قيم تراثية أو ماضوية لم تواجه تحديات اليوم، وكذا في موضوع الإرادة، فإذا لم تكن معرفية معاصرة تتجاوب مع مستلزمات مالكيها، ستتحول إلى إرادة عبثية دون مصالح حقيقية، فالمعاصرة هي مساحة التجريب والفعل، وخارجها هناك من الهدر لإمكانيات الرعايا، يؤهلهم للعيش في الدرك الأسفل للحضارة والمدنية والإنسانية. فالدولة والمجتمع شأنان معرفيان معاصران، حتى بين عامي 2011 و2025 هناك فارق معرفي هائل بما يخص إدارة المجتمع، نتجت عنه الكثير من المتغيرات التي لم تتهيأ لها تلك السكانيات المسماة وهماً «مجتمعات».

لم يخرج الناس في سوريا، 2011 ضد «الدولة»، بل خرجوا ضد اللادولة، ولم يخرجوا من أجل تبديل وجوه الحكام، بل خرجوا ليلزموا الحكام بإستحقاقات الدولة، وأولها المساواة، لإن العدالة لا تتحقق إلا بوجود متساويين، والغلبة والشوكة لا تحقق الحالين، كم يفلت منها فعل تحقيق المصالح، فتبدأ بالعنف المعبر عن الفشل الواضح في كل أداء يقدم عليه التجمع السكاني السوري، التي لم تستطع «دولة» الشوكة والغلبة التعامل معه «كمجتمع»، خرج الناس في سورية ضد هذا الفشل تحديداً، وانكشفت الكثير من الأعطاب التي أعاقت السكانية السورية من التحول إلى مجتمع، وبالتالي إستحالة وجود «دولة» لإنه موضوعها، ومهما كانت المراسيم والقرارات، والبرتوكولات، والإستقبالات والتدشينات، التي تشير إلى وجودها، بقيت السلطة على حالها، تصون مصالح بقاءها هي نفسها تاركة المجتمع يتعفن،بمصالح فردانية تأكل الأخضر واليابس، وتحول كل شيء إلى مليشيا، تستطيع أن تفرض سطوتها على الضعفاء وتبتزهم وتظلمهم، مهما كانوا تافهين أو عظماء، إذ ليس في ظهرهم مجتمع ذي إرادة يعتبر الظلم هو إنتقاص من مصالحه.

والميليشيا تستدعي المليشيا، فمن لديه مليليشيا على أسس هشة وضعيفة معرفياً ومجتمعياً، سوف تقابله ميليشيا من ذات النوع، ( هذا ما حصل في لبنان سابقاً، ويحصل في السودان وليبيا واليمن حالياً) ترد عليه بنفس المكيال، وتبتزه بنفس شروط الغلبة والشوكة، ولهذا رأى العالم المتحضر أن «الدولة» ومسبباتها من ديموقراطية وإنتخابات وأحزاب ونقابات وصحافة، هي أحسن الحلول المتوفر في عصرها، فجربتها ونجحت إلى حدود ممتازة، ولما تزل تسعى إلى تطوير التجربة عسى أن تكون أكثر عدالة، أو ربما لإزالة أخطاء التي ظهرت أثناء الممارسة.

اليوم في سوريا، يطلب الجميع أن تكون هناك «دولة»، ولكن هل هناك من يعرف معنى الدولة منذ عام 1958 حتى يومنا هذا؟، كيف نميّز أن هذه دولة؟، وهذه مجرد قوم متغلبون؟ هل يعرف السوريون محاسبة المسؤولين، أم يعرفون فقط التملق لهم كما تربوا خلال سبعين عاماً؟ ما هي الدولة، فليسأل السوريون عنها في إستفتاء عام، فقط على الحكام تعريف «الرعايا» بمفهوم الدولة كما واقعها الآن في أربع أصقاع الأرض، وكيف تعد الدولة وتنفذ وعودها، وكيف يحاسب المسؤول عن الفشل والنجاح، على التوازي مع الفساد وسوء إستخدام الصلاحيات، هل سوف يستطيع السوري فرداً أو جماعة أو منظمات محاسبة المسؤول؟، لا يهم التأييد والقبول، وإنما المحاسبة على النتائج، فهل يحتمل المسؤول بهذا، طالما أنه هو من طلب المسؤولية ووعد بممارسة دوره الكامل في تحصيل الشبع والمنعة؟ لقد طلب السوريون في 2011 أن يكون هناك صفر مخابرات، فهل تحقق لهم ذلك؟

ومع ذلك.. نحن مضطرون لطرح السؤال المرحلي، ما الذي يحصل في سوريا اليوم؟ هل هو مرضي للسوريين الآن ومستقبلاً؟ أم أن الموضوع أعقد من ذلك بكثير، من مشكلة التوتسي والهوتو، الذين تعلموا من خطأهم الفادح، وتلافوه بعدالة دنيوية إنتقالية، تحفظ الكرامة الإنسانية، التي هي المبدأ الأول في شرعة حقوق الإنسان القابلة للتطور والإرتقاء.

نجيب نصير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *