الخيال السياسي وحقائق الواقع

الرغبوية في السياسة (wishful thinking) هي مرض من أمراض علم النفس السياسي حيث يقوم الرغبوي بوضع افتراضات غير صحيحة للوصول إلى ما يتمناه من نتائج مبهرة ولا يعتمد في سعيه على الأدلة العقلية أو المعطيات الصحيحة، لذلك تأتي نتائجها لا علاقة لها بالأهداف ومخيبة للآمال، عندئذ يلجأ الرغبوي لتحميل المسؤولية للظروف أما الدولية والإقليمية، أو للمؤامرات الخارجية ،او لأصحاب الاجندات المعادية وان اضطر للطقس من حر وبرد ومطر وصحو، باختصار انه يتعامل مع مدخلات غير صحيحة أملاً بالوصول إلى مخرجات صحيحة.

طرح الرئيس الامريكي دونالد ترامب تصوره للحل في غزة وذلك بتهجير سكانها إلى مصر والأردن ثم بالاستيلاء عليها أو شرائها وتحويلها إلى ريفيرا سياحية واستثمارات عقاريه، وترافق ذلك مع دعم رسمي للحكومة (الإسرائيلية) باستئناف الحرب على غزه التي لم يبقى بها من أهداف لتضرب، فلا مساكن ولا مدارس ولا مستشفيات أو مساجد أو كنائس بقيت على حالها وكذلك دمرت اسس البنية التحتية من شبكات الماء والكهرباء والصرف الصحي والشوارع الامر الذي يعني ببساطة ان هدف الحرب القادمة سيقتصر على المدنيين الذين يفضلون البقاء في غزة ولا شك، وذلك ولكن ذلك بمقدار ما يتبقى لهم من قدرة واحتمال.

الرغبويون الملتزمون بالمقاومة يصرون على ان خطة ترامب ليست إلا حبراً على ورق، و ان خططاً كثيرة سبقتها و لم تصب النجاح، فالشعب الفلسطيني يرفض التهجير ومتمسك في أرضه ولا يوافق على تحويل غزة إلى مشروع عقاري سياحي وشاهدهم على ذلك ما قدمه اهل غزة من صمود وثبات منذ السابع من تشرين اول 2023 ثم عودتهم بزحف كان مثير للاهتمام و الإعجاب إلى شمال القطاع ومرابطتهم على انقاض منازلهم المدمرة، يضيف هؤلاء ان المقاومة لا زالت مستمرة وانها قادرة على احباط المشروع الامريكي، ولكن هذا الكلام الجميل لا يكفي في النهاية، فأهل غزة قدموا ما عليهم لا بل وما يزيد عن قدرة الانسان، اي انسان على الاحتمال والالتفاف حول المقاومة والصمود والثبات والصبر، ولكنهم في النهاية كسائر بني الانسان بشر خلقوا من لحم ودم، وليس من حديد أو بلاستيك أو فيبر-غلاس، ولقدرتهم حدود قد تجاوزها وهاهم يفتك بهم العراء والجوع والمرض والبرد شتاء، والشمس الحارقة صيفا، فيما لا يبدو في الافق ما يعينهم أو يريهم بصيص امل لوقف معاناتهم لا بل انهم على موعد مع استئناف الحرب التي يتوعدهم بها نتنياهو.

اما الرغبويون في الخندق الاخر، محور الاعتدال بالتعبير المتداول والمحور الابراهيمي الامريكي الاسرائيلي ان اردنا الدقة في التسمية، فقد تفاءلوا بعقد القمة العربية في القاهرة باعتبارها ردّ  قوي على المشروع الامريكي وقد قدموا خطة بديلة لمشروع ترامب سميت بالخطة المصرية لأعادة اعمار غزة، وكانت قد سبقت القمة هذه اخرى مصغرة عقدت بالرياض، و حسب ما يكتب منظرو ومثقفو الإبراهيمية ان هذه القمة أي قمة القاهرة كانت استثنائية بنجاحها فقد خرجت بإقرار خطه اعمار غزه التي ستطرب حتما الخطة الأمريكية وتوقف العدوان الاسرائيلي وقدمت موقفا عربيا موحدا يؤكد على استقلالية القرار العربي وان مرحلة جديدة قد انطلقت مختلفة عما سبقها، سوف تكون الإرادة العربية بها قوية ومؤثرة وقادرة على التصدي لمشروع ترامب وجعله شيئا من الماضي وكذلك ردع اي عنوان (اسرائيلي) على الشعب الفلسطيني.

كان من الملاحظ الغياب الكامل للمغرب العربي عن قمة القاهرة وكذلك طرفين مؤثرين وهم السعودية والامارات العربية ومع ان مرجعيات الدول الغائبة قد تختلف عن بعضها البعض، الا ان جميعهم على ما يفسر غيابهم، يدركون ان القمة لم يكن لها ان تخرج عن كونها فرقعات لفظية، ثم ان المغرب والسعودية والامارات يعرفون تماما مقدار قوة واشنطن وتأثيرها على كل من الاردن ومصر اللتان لن تصمد في مواجهة الامريكي طويلا.

هكذا فالرغبوي مطمئن إلى ان خطة التهجير والريفيرا لم تعد قائمة، أما نتيجة للصمود والبطولة لدى مؤيدي المقاومة واما بسبب القمة العربية والخطة المصرية لدى الابراهيميين.

ما ينشر عن خطة ترامب وتفاصيلها ومنها ما وزعته اوساط ترامب وصهره جاريد كوشنرمن منشورات مصورة على شكل فيديوهات تؤكد ان العمل على الريفيرا الغزية والاعداد لها قد بدا منذ زمن بعيد وليست فكرة عابرة أطلقها الرئيس الامريكي ولا يريد التراجع عنها، فيما سبق لترامب ان قال انه متأكد ان الخطة ستنجح وان مصر والاردن سيقبلون بها في النهاية.

وفي حين غابت المقاومة (حركة حماس) عن قمة القاهرة التي اكدت في بيانها الختامي ان خطتها لإعادة اعمار غزة لن تدع مكانا للمقاومة أو لحركة حماس لا في الحكم ولا في الادارة وربما حتى بالوجود الفيزيائي، و في حين رفضت كل من واشنطن و تل ابيب الخطة المصرية، لكن المفاجأة كانت ان اخبارا صحيحة قد تسربت عن فتح حوار امريكي مع حركة حماس في قطر.

يدرك الامريكي حاجة (اسرائيل) لتجرع بعض الشراب المر بعد ان فشلت في استئصال المقاومة، ويدرك الامريكي و(الاسرائيلي) على حد سواء ان السلطة الفلسطينية في رام الله لا تستطيع ادارة غزة وان اي قوات عربية أو دولية لن تستطيع ذلك ايضا، وان الفراغ الذي ستخليه المقاومة وحركة حماس- ان حصل، ستملأه جهات جديدة وسيفتح المجال امام مجموعات صغيرة ذات نهج مقاتل بعضها يحمل افكارا تكفيرية أو يائسة مما يدفعها إلى السلوك المتطرف ثم ان لا عنوان لها يمكن محاورته أو مقاتلته.

خطة ترامب مشروع قديم و جدي تم العمل عليه من قبل خبراء في التطوير العقاري و مهندسين و علماء اقتصاد، و هو يملك فرص نجاح عالية لأسباب اهمها تهافت الوضع القومي و العربي و انكفاء محور المقاومة، و الافكار الترامبية لا تمثل غزة بها الا راس جبل الجليد، و لكنها في النهاية تشمل الضفة الغربية و الاردن و مشروع اقامة كيانات وظيفية في سورية متحالفة مع المشروع الامريكي (الاسرائيلي) و مصر، خطة ترامب برغم جديتها الا انها ليست قدرا مبرما لا راد له، و التصدي لها امر ممكن وواجب و لكن لن يكون بالأماني  والشعارات وانما بالتفكير العلمي و بإعمال العقل وبحث الممكن و المتاح دون الخروج على الثوابت و المبادئ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *